قراءات نفسيــــــــة

 

المعرفة معطى إنساني

توطئة

المقال الحادي عشر (11) جديد أكتوبر 2005

المقال العاشر (10) جديد أكتوبر 2005

المقال التاسع (9) جديد سبتمبر 2005

المقال الثامن (8)

المقال السابع (7)

مقال في المعرفة (6)

مقال في المعرفة (5)

مقال في المعرفة (4)

مقال في المعرفة (3)

مقال في المعرفة (2)

مقال في المعرفة (1)

 

 

 توطئة

            لا يمكن لفرد أو لمجموعة أو لثقافة الخ... الخ.. العيش في عزلة منغلقة على نفسها. هذا التواصل أصله ليس في اجتماعية الفرد فقط كما رآه العلامة ابن خلدون ولكن هو من مقومات إنسانية الإنسان. معنى هذا أن المناخ الاجتماعي والجغرافي وحده قاصر عن إفراز ثقافة. إذن ما الذي يفرز الثقافة؟ في البداية  حيرة الفرد هي الدافع القوي في هذا الاتجاه. الحيرة هنا ليست في البحث عن الكلأ والماء كما هو الشأن عند الحيوان في سنوات الجفاف لانه لو كان الأمر كذلك لكان هذا الأخير المتحصل بصفة متواصلة على جائزة نوبل للثقافة. لإبداعه في التأقلم. الحيرة المقصودة هنا هي التي ستكون الحافز لتخطي الفرد حياته الغريزية التي لا مطلب له فيها إلا إشباع متطلبات بقائه.. الى حياته العقلية حيث يسمو ويتسامى عن بقية المخلوقات. إعادة ترتيب الفرد لحياته حسب مقتضيات العقل ستفتح له أو عليه نوع من الحيرة الجديدة والمتمثلة تقريبا في هذا التساؤل: هل لهذه الحياة من معنى ؟ إذن بداية استعمال العقل ليست المطلوب في حد ذاته ولكنها مهمة كمقدمة لهذه الحيرة الأخيرة. وهنا تكمن في الواقع غاية كل معرفة... المعرفة هنا كعنوان بارز  لشيء أسمى من الثقافة ألا  وهي الحضارة. إذن المعرفة واحدة والثقافات والحضارات منعددة.

  إذا كان الأمر كذلك الحضارات ليست بأهداف في حد ذاتها بل إجابات متواصلة متواترة على هذه الحيرة من هذا المنطق والمنطلق لا يمكن أن يكون هنالك تفاضل بينها بل تمايز وهذا التمايز مرده تقدم العقل وفتوحاته وليست البيئات الجغرافية واللسانية التي أفرزتها...  بذلك الحضارات حلقات سلسلة متواصلة تصب في مصب واحد الجواب على حيرة الفرد؟ هل لحياتي من معنى؟  وهذا في اعتقادي هدف المعرفة بصفة عامة. المعرفة بذلك تكون العنوان لمختلف الثقافات. الثقافات المتعددة و المختلفة المكان والزمان واللسان.

  تحجر الفكر الإنساني في القوالب الجامدة الموروثة عن نمط تفكير معين يتستر بستار الموضوعية هو الذي أوصل المسار الإنساني إلى ما وصل له اليوم...  الموضوعية هي من بين الأمور التي خدعت الجميع لماذا؟ لأن المعتمدين عليها كانوا يظنون أن المعطيات التي بين أيديهم هي  معطيات قارة أزلية أي موضوعية في المطلق وهذا رغم تأكدهم من أن الواقع متغير، أي أن هذه  الموضوعية آنية أي مرتبطة بتقدم العقل وفتحاته، وما كان مسلما به بالأمس يصبح نسبيا بالغد. السؤال المطروح : هل أن عالم الشهادة هو عالم الموضوعية والثبات؟ وهذا في اعتقادي الخطأ الذي وقع فيه الجميع. لماذا؟ لأنه بعد إلغاء عالم الغيب لم يبق للعقل من خيار إلا هذا المرسوم له. وإذا بنا بهذا المنطق نحكم على العقل  بالسجن  وهذا بقطعنا إياه عن جذوره... وعوض الوقوف وقفة تأمل لتصحيح المسار لصالح الجميع وقع التمادي في الخطأ وذلك بإيجاد مبررات للعجز والقصور الذي نعاني منه معولين في ذلك دائما  على إيجاد آليات أكثر تقدم وأكثر دقة ونجاعة وآلة بروبقنده ودعاية قوية مضلله... تبرر لنا صحة نظرتنا لكنه يجب الاعتراف أن  البعض بدأ يرجع إلى رشده ليقر أن الثابت الوحيد هو عالم الغيب :عالم لا إله إلا الله. وما عداه متغير. ولكن هذه البداية لا زالت محتشمة... في بداياتها.

       إذن عندما يعلن رسميا عن نهاية التاريخ ُيستغرب الأمر أولا ثم يُستهجن أولا وأخيرا... أولا هذا النعي  لم يأت بجديد... لقد سبق لهذا عباقرة أفذاذ بحق، من أمثال هيغل. منطلق هيغل هو أن التجربة الإنسانية تخضع لنفس المقاييس التي تخضع لها بقية المعطيات الطبيعية والبيئية... تولد الأشياء تنمو تنضج وتمر. وظن بذلك أن النضج هو مطلب المسعى الإنساني في جانبه العقلي ولم يربط النضج بتجربة إنسانية غير محصورة لا في الزمان ولا في المكان ولا ببعد معين من أبعاد الفرد، وبذلك جعل من التطور العقلي  غاية الإنسانية وجعله  رهينة أحداث وجعل من التجربة الناتجة عن هذه الأحداث كل غاية الإنسان في الوجود.  بذلك رأى أن هذه المبادئ والقيم  تتعدى حدود الزمان والمكان وربطها بالمطلق فقال باكتمال التجربة الإنسانية بوقوع الثورة الفرنسية. وهنا يكمن قصور هذه النظرية... لقد اعتبر مبادئ الثورة الفرنسية  قمة الإبداع الإنساني خالطا بذلك الفكر الغربي في وقت معين والإبداع الإنساني وهذا، و رغم جلالة هذه القيم وروادها، يبقى فيه نظر. ثم تطرق للضر وف   التي أدت لهذا النضج وربطها خاصة بالتوسع الإمبراطوري الفرنسي وما كان له من انعكاسات على الفكر... الذي كان مقدمة لانتصار مبادئ الحرية والعدالة والمساواة... بمعنى آخر لم يبق للعقل ما يكتشف وراء هذه الثلاثية. الانتصارات العسكرية والاقتصادية المبنية على الهيمنة والتوسع الإمبراطوري هو الذي ألهم من جديد المبشرين الجدد بنهاية التاريخ. حيث عوضت الثورة الفرنسية ومبادئها قهرا... بانتصار الرأس المالية في مواجهتها" الباردة " مع عدوتها اللدودة النظام الاشتراك. بمعنى آخر أن قمة الإبداع الإنساني هو ابتكار"النظام العالمي الحر للتجارة " وعلى هذا فليتنافس المتنافسون. بحيث أن كل المبادئ التي كرستها الثورة الفرنسية من حرية وديمقراطية ومساواة بين الأجناس يجب أن توضع في خدمة الماكينة الاقتصادية وليس في صالح الإنسان... بمعنى آخر لا بد بالتضحية بالإنسان في سبيل تمكين العجلة من الدوران.

       والغريب أننا نجد الرئيس الفرنسي الحالي "جاك شيراك" التي أنجزت بلاده الثورة الفرنسية والتي رأت بلاده ميلاد حقوق الإنسان يقول في مؤتمر مجموعة الثمانية (2004) متحدثا عن العولمة "إنها ماكينة شرعت بعد تدور ولن تتوقف دواليبها أبدا وما على الدول إلا معرفة اللحظة التي يمكنها فيها الاندماج في حركة هذه الماكينة بكيفية تستفيد فيها من طاقة حركتها وتفيدها في آن.  فإذا أخطأت اللحظة المناسبة عجنتها عجلتها عجنا مؤلما. " ليس بعد هذا الوضوح من وضوح على البشرية أن تتأقلم مع الماكينة وإلا عجنتها عجنا مؤلما... يا لها من نهاية انتهت لها مبادئ  الثورة الفرنسية.. ومن قبلها الإبداع الفكري الذي أخرج الفكر الإنساني و الإنسانية مما تردت فيه أثناء عصور الإنحطاط...  في عصر الأنوار. بمعنى آخر هنا ينتهي تاريخ الصفحة المشرقة من تاريخ" الثورة الغربية" على الكنيسة وعلى الجهل والفقر والمرض...  لصالح قلة  من النخبة البشرية الجشعة التي لا يهمها فقر عقولها وضمائرها بقدر ما يهمها انتفاخ جيوبها. هذا المآل لم يأت من لا شيء لقد هيأت له إيديولوجيات فرضت نفسها كمرجعيات علمية

      من هذه الأيديولوجيات المتسترة بستار العلم نجد منها من ينادي باعتبار الغرب يمثل أساسا صفوة الصفوة من الجنس البشري  حيث تؤكد الفلسفة البنيوية أنه يمثل كمال النضج في الجهاز العصبي العلوي وما ينتج عنه من إبداع، وأن كل الاجتهادات الإنسانية الأخرى من ثقافات وحاضرات ما هي  إلا مقلدة أو مهيأة لهذا النضج. وهذا هو حجر الأساس فيما  يسمى" بعقدة التمركز الغربي" التي يلخصها" مارتن بارنال" كما يلي :أن أوروبا الغربية بمفهومها العرقي والتاريخي والجغرافي حددت حصرا مصدرها الحضاري في بلد الإغريق وإن كل إبداعاتها تنتمي مباشرة  إلى هذا الجذر(أنظر كتاب برنال:Bernal martin. Black Athena, vol1 the fabrication of Antient Greece.London,free assocition Blooks(1987))..  أي أن الغرب أنكر وجحد كل الإبداعات الإنسانية التي سبقت الهللينيين وحصر مرجعياته التي أدت إلى نهضته  فيها. هذا المفهوم المغلوط الذي يصححه برنال له أبطاله المهيئين له و نذكر منهم على سبيل الذكر فقط" غوبنو" الذي يفسر الحضارة والتاريخ على أساس العرق والتمركز الإثني. وينتقد عام نويل وولرشتاين هذا التمركز بأن هذه الضاهرة تسلب العلوم الاجتماعية في الجامعات أو في مراكز البحث الأوروبية حيادها ونزاهتها وموضوعيتها العلمية والفكرية(عن مقال لأزراج عمر: التمركز الأوروبي.. بصحيفة العرب العالمية. ص3 ليوم الجمعة 15-10 –2004). التمايز الفكري والحضاري لا يعني الانغلاق والتقوقع ونكران الآخر وهذا ما تفطن له المفكر العربي سمير أمين حيث يؤكد على أن الإبداع الغربي،  و ما أسماه شخصيا الإضافة الغربية للإبداع الإنساني ، ينتمي الى مجموعة الرؤى الثقافوية الطابع ويعتبر سمير أمين أن هذه الثقافة مرت بمرحلتين متتاليتين متمايزتين في الرحلة الأولى كانت أوروبا وحتى الفرن السادس عشر جزء من المنظومة الخارجية الإقليمية التي ضمت المجموعات الأوروبية والعربية والمسيحية والإسلامية، وفي المرحلة الثانية دخلت المنظومة المذكورة  في المنظومة الرأس مالية فأصبح بذلك المحيط الأطلسي هو المركز( أنظر بعض قضايا المستقبل لسمير أمين. بيروت دار الفرابي (1990)(نفس المرجع السابق).

      نرى من هنا قصور النظر الذي أدى عن قصد أو عن جهالة إلى الزج بالعقل الإنساني في هذه المتاهات التي هو في غنى عنها...

      إذن متى ينتهي التاريخ؟ للإجابة على  هذا السؤال لا بد  من حل إشكالية أخرى: متى ابتدأ التاريخ؟ هل أن التاريخ أبتدأ مع التجربة الإنسانية المدونة؟ بمعنى آخر هل أن التاريخ ابتدأ مع الاستغلال سواء كان هذا الاستغلال من الإنسان للطبيعة أو استغلال الإنسان للإنسان...  أم أنه ابتدأ مع صراع الخير والشر في المطلق؟ النظرية المادية تقول بالمبدأ الأول وغريمتها تقول بالمقولة الثانية. هذا الطرح  هو المسؤول في جانب منه على العقم الإبداعي التي تعاني منه البشرية اليوم إذا استثنينا الجانب التقني الحرفي منه...  وفي الواقع أن ما يشار به إلى نهاية التاريخ هو نهاية مسار هذا التمشي المبني على المنطق الأحادي الذي كرس العقل وحده أول القبلتين وثاني الحرمين.  وبذلك دخل العاقل نفسه في متاهات لا أول ولا آخر لها. إقصاء  الكنيسة للعقل وردة فعل عهد الأنوار بإقصاء الإيمان من المسيرة الإنسانية هو الذي وصل إلى مداه أي إلى نهايته.  لقد نعى هيغل... وعلى آثاره فوكوياما...  زمن ما سمي بعصر الحداثة... وليس بالتاريخ الإنساني.

فوق

المقال الأول

           الحياة معنى. من أين يأتي هذا المعنى ؟ أو بصيغة أخرى هل أن الجهاز العصبي العلوي مهيأ لصنع هذا المعنى من خلال التمشي العقلي الذي يضعه لنفسه و المتمثل في المنطق السليم ؟ أو أن هذا المعنى  لا يمكن أن يكون من مشمولات العقل وبذلك يكون معطى مستقلا عنه... وعلى العقل أن يكتشفه كما اكتشف القوانين المسيرة للظواهر الطبيعي والتي خولته فهم الكون. إذا كان الأمر كذلك ما هو الجهاز أو الجهة المسؤولة عن هذا المعنى؟ الجواب ببساطة يكمن في معرفة تكوين الإنسان ببعديه المادي والمعنوي أي الروحي. من هذا المنطلق العقل هو امتداد للجانب المادي فيه أي الجسم ومن هنا ومهما كانت صفوة تركيبته بالنظرلبقية مكونات الجسم فهو غير مهيأ للعب هذا الدور. إذن ماذا تبقى ؟ المسؤول عن المعنى هو البعد  الوجداني ومصدره الروح. لكن أين تتموضع الروح وما هي آلية عملها؟ الروح مقرها القلب" ما وسعتني السماوات والأرض ووسعني قلب عبدي(منقول عن جواب المولى جل وعلى إلى سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة أزكى التسليم) وآلية الروح هي الهمة. الهمة بالنسبة للروح هي بمثابة العاقلة بالنسبة للعقل.  وفي تراثنا  يشار إلى الروح والقلب والهمة بالفؤاد. "ما كذب الفؤاد وما رأى"( سورة النجم) هذه الآلية : رافدها الفطرة ومن ورائها الروح مثلما الحال بالنسبة للعاقلة روادها الحواس ومن ورائها الظواهر الطبيعية.

      إذن المعنى يأتي من آلية البعد الوجداني في الإنسان وليس من بعده المادي وآليته. السؤال إذا بتر الإنسان من بعده الوجداني هل يبقى إنسانا ؟ لا في اعتقادي بل يكون بشرا. أي كائن اجتماعي كبقية الكائنات الاجتماعية من حيوانات  بحيث يصبح العقل يلعب دور الغريزة  مثلما الحال عند الحيوان مهمتها المحافظة على وجوده بانصهاره في بيئته لضمان قوته من الكلأ والماء.

فوق

المقال الثاني

   المعرفة لا يمكن أن تكون أحادية المصدر.  لماذا ؟ لأن هذه النظرة لا تتماشى وواقع التكوين البشري ببعديه المادي والوجداني. المادي هو كل ما يتصل بالجسد ألمتجذر في مادة تكوينه والمتعلق بالزمن بمعنى له بداية ونهاية. أما الوجداني يتمثل في كل ما لا علاقة له بالجسد وبدونه يكون هذا الأخير جثة. إذن الوجدان هو المضاف إلى الجسد ولكن على خلافه فهو متجذر ومتعلق بالأزل. كما قلت الجانب المادي واقعه  الموضوعي الجسد أما الجانب الوجداني فواقعه الروح . الروح هي التي تجعل من هذا الجسد-المادة إنسانا. وهي التي سترفعه درجة فوق بقية المخلوقات وهى التي تربطه بالأزل كذلك.. ومع ذلك فهي لا تتعلق بزمنيته أي بمعنى أنها لا تندثر باندثاره.

  الجسد والروح لا معنى لهما في انفصالهما عن بعضهما، معناهما في ارتباطهما ببعضهما وتلاقيهما هو الذي يفرز خصوصية هذا الكائن : العقل. العقل هنا ليس بمعنى كتلة عصبية لها طبيعتها الخاصة أي كآلية لتسيير الشؤون اليومية  بل كمشروع لهدف معين . السعي اليومي هو وسيلة من وسائل هذا المشروع لتحقيق ما خلق من أجله.

   مهمة العقل الأولى لا تتمثل كذلك في فك  رموز الطبيعة باكتشاف نواميسها لإنتاج ثقافة معينة تتداولها  الثقافات والحضارات...للسيطرة على الظواهر الطبيعية لتسخيرها لأغراض آنية أنانية . قلت العقل خلق لهدف محدد لهذا هو مرتبط ارتباطا وثيقا بالقائم على  هذا المشروع . العقل من هذا المنطلق لا يمكن أن يكون مقتصرا على عمل مجموعة الخلايا العصبية للجهاز العصبي العلوي بمعزل عن بقية إبعاد الإنسان الحامل له بل يقتضي مشاركة كل أبعاده : الجسد والروح والعقل... هذه الأبعاد تمثل وحدة الفرد  وفي تناغمها يتم "إنتاج" المعرفة. والمعرفة لا يمكن أن تكون إذا اختل هذا التوازن.. هذه الوحدة.

   المسار البشري أساء فهم هذه البديهيات فضاع وأضاع.  وحدة الفرد هي التي تحمل الرسالة الأمانة "وإذا أخذ ربك من بني آدم  من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم  على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن  تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين" (الأنفال 172). الأمانة هي المضمون الجماعي لكلمة التوحيد. لأن الواحد لا يعبد الواحد الجماعة هي التي تعبد الواحد. وهذا سبب من أسباب الخلق وكثرته. من هذا المنطلق تكون المعرفة في كنهها  معطى.

فوق

المقال الثالث

          ماذا يمكن أن يكون الفكر من هذا المنطلق؟ الفكر هو نتاج عمل هذه الآلية في تناغمها  بين الزمني والأزلي. ألزمني آليته العقل والأزلي أداته الروح متمثلة في آليتها الفطرة.  بانفصام هذه الأبعاد تتعثر المسيرة الإنسانية.

      الجهاز العصبي العلوي (المخ) أداة عمله العاقلة. العاقلة هي المترجم بين المادي والمعنوي وبدونها يكون العقل أخرس. العقل  هو معطى بيولوجي متأخر التكوين والنشأة بالنسبة للجسد  وخاصة بالنسبة للمضغة الحاملة للفطرة. الشبكات العصبية  لا تكتمل إلا بعد الولادة و لا تنضج إلا بعد ذلك بكثير. الجهاز العصبي العلوي تابع لمادة الجسم في تكوينه ويعمل بما يمده به عبر روافده المتمثلة في الحواس. إذا اقتصر عمل العاقلة على ما تمده به الحواس... نتاج هذا العمل يكون أجذم وفي أفضل الأحوال مبتورا من بعده الوجداني. العقل المبتور من بعده الوجداني لا يبتعد كثيرا في دوره عن الغرائز عند الحيوان. الفارق الوحيد بينهما يكون أن الحيوان يخضع لبرمجته أي لا دخل له فيها يرثها ولا يكتسب منها إلا القليل. أما الإنسان ينتج برمجته التي تفسد فطرته.

     كما الجهاز العصبي العلوي أداة عمله العاقلة الروح موضعها الفطرة وأداة عملها الهمة. هذه الآلية يرمز لها عموما بالفؤاد حيث مركزها القالب. والقلب عكس الجهاز العصبي العلوي فهو أول شئ يبدأ به التخليق. وهذا سر من أسرار المضغة المذكورة في التنزيل الحكيم. ( لقد أثبت العلم الحديث هذا (أنظر Science et       Vieالعدد الخاص المخصص للجسم مارس 2004) القلب يمثل حجر الزاوية في بناء إنسانية الإنسان وفي حياته بصفة عامة. التخلق ناتج عن برمجة بديعة الإحكام ثنائية الأبعاد :المعنوي أولا والمادي ثانيا. اللقاء الأول بين الحيوان المنوي والبويضة أول ما يثبت، يثبت الفطرة. الفطرة تمثل في جانب منها طاقة هائلة مذهلة متعددة البرمجيات والاختصاصات كوسيلة موازية للبناء العضوي البحت فهي مسؤولة على  البناء ككل وعلى البعد الوجداني بصفة أخص. من هذه الطاقة تتولد الأحاسيس والمشاعر مثلا وهي تتبع الرحم أساس التواصل بين جميع مكونات الفرد البشري عضويا ووجدانيا وأساس التواصل الإنساني. هذه البرمجيات محكمة الانسجام الفطرة هي المسؤولة عنها. لماذا ؟ لأنها هي المسؤولة عن المعنى في حياة الفرد. لكن يجب التفطن، المعنى المقصود هنا ليس المعنى في حياة الفرد المعني بالأمر بل وكذلك معنى حياة المجموعة. حيث أن الجميع يجب أن يسير في نفس الاتجاه لإنجاز ما خلقوا من أجله.

إذن الفطرة هي التي تحمل المعنى وليس العقل. لذلك استحالة استغناء العقل عليها كرافد من روافد المعرفة. وإذا بتر العقل منها فهي مؤشر تعطيل لمسيرة الإنسانية... وهذا ما نعاني منه اليوم.

فوق

المقال الرابع

لبروز المعرفة لا بد من توافر بعدين : العاقلة والهمة. العاقلة هي نتاج احتكاك الجهاز العصبي العلوي بمحيطه والهمة هي نتاج احتكاك الفطرة  بالإيمان عن طريق الروح ...وهذا أمر في غاية الأهمية, لأنه كما بينت , المعرفة ليست بنتيجة لعمل العقل في تواصله مع الواقع في التجربة اليومية البحتة بمنأى عن الهمة. وكذلك الهمة لم توجد كردة فعل نتيجة لضياع الفرد ... بمعنى أن الإنسان لم يهتد لبعده الوجداني كردة فعل عن ضياعه . الهمة معطاة منذ البداية كحلقة وصل بين الأزلي والزمني , بها عن طريق الروح عرف الإنسان خالقه .إذن البعدان هما وجهان لعملة واحدة وعنهما تنتج المعرفة .المعرفة لتقريبها من الأذهان يمكن أخذها كما تؤخذ عملية كيميائية ...مثلا الماء هو نتيجة لاختلاط ذرتي هيدروجين وذرة أكسيجين .إذن الحديث عن المعرفة كنتاج للعقل مبتور من الهمة لا يخدم المعرفة في شئ ثم أنه يعطل المسيرة الإنسانية حيث تصبح المعرفة نوع من التقنية أي نوع من الحرفية التي لا تحتاج إلى مرجعيات معرفية كبيرة ...ولكن لتطوير ما هو موجود. ولكن  من سوء الحظ هذا هو الرأي السائد اليوم , الذي فرضته التجربة الإنسانية المتعثرة.

العلم المخبري المبني على التجربة" الموضوعية" البحتة... ومهما كان ميدان تجربته ينتهي دائما في مصب واحد ...الربح الوفير نتيجة السبق ...فيصير بذلك نمط تجاري مثله مثل أي سلعة تباع وتشترى والطلب والعرض هو الذي يحدد الثمن .. والثمن هو من المبررات الرئيسية في هذا المنطق.

الإيمان الغير معقلن ينتهي دائما إلى نوع من الشعوذة ...يستغل فيه الدين كقناع للوصول أما للولاية أو للخلافة.

البعدان كما بينتهما هما متكاملان ولكن باستطاعتهما إذا حرفا عن مسارهما العمل الواحد دون الآخر ولكن نهاية كل منهما هي الرمي بالنفس للتهلكة. أمثلة على ذلك . العلم المخبر الذي يأخذ الغرب الآن ريادته  أنتج التلاقيح لعدة أوبئة وآخر مثال لذلك لقاح ضد مرض فقدان المناعة المكتسبة ولكنه يرفض أن يجعلها في متناول المحتاجين إليها بأثمان معقولة معرضا بذلك حياة الملايين من البشر للموت. كذلك  أنتج جميع أنواع الأسلحة التدميرية..  مع العلم أن ثمن سلاح واحد من أسلحة الدمار الشامل  يقضي على الفقر وعلى الأمية في جميع أنحاء المعمورة ...كذلك الدين  الذي يأخذ العالم العربي والإسلامي الآن ريادته إذا ابتعد عن سلطان العقل ورغم قيمه السمحاء ينقلب إلى غطاء يستعمله الحاكم والمحكوم لمآرب لا علاقة بعبادة المولى ولا لنشر رحمته على الأرض فيها من شئ ...فتجند الطاقات هذرا وتزهق الأنفس ويكفر الناس وتهتك الأعراض .إذن الدين كذلك إذا لم يكن له ضابطا عقلي يرمي بأصحابه للتهلكة واقرب الأمثلة لنا ما يجري في فلسطين على يد اليهود باسم التوراة وما عانته البوسنة المسلمة على يد غلاة التصفية العرقية المسيحية وما عاناه الشعب الجزائري على يد التطرف الديني...

الفطرة هي   الجانب المؤطر للعقل حتى لا ينفلت العاقل فيضيع ويضيع ..وبذلك ينحرف المسار عن رسالته لذلك هي تحمل نوعا من الشفرة (code) الذي يمكنه تعطيل الاندفاع الجنوني إذا أصبح الانحراف يهدد المسار ككل. الشفرة موجودة بالقوة ولكن إذا اقتضت الضرورة تنقلب إلى حافز عملي لتعديل المسار(إن أنزلنا الذكر وإن له لحافظون) .

المسيرة الإنسانية مضبوطة من ناحية المضمون وكذلك من ناحية التوقيت ...الفرد والمجموعة لا دخل لهم في هذا هي مقدرة لهم.

فوق

المقال الخامس

 النموذج الإنساني الأول ليس بآدم كما يظنه البعض. آدم هو الصورة البشرية الأولى. أما النموذج الإنساني هو سيد الخلق محمد ابن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزك السلام. "بعثت وآدم لم يزل بين الطين والماء"(حديث  شريف) ولا غرابة في ذلك بما أن المعنى يسبق دائما الصورة. وهذا أمر أسيء فهمه وهو سبب من أسباب تعثر وتعطل المسار الإنساني .لقد شطب النموذج ولم يُحتفظ إلا بالصورة حيث أُقتصر البحث  على حقيقة وجود آدم كبشر أو كقرد... في البداية.

آل هذا التمشي إلى القطع مع الجانب الوجداني ...من آدم ولم يعترف له إلا بالجانب العقلي ..ليسهل تجاوزه فيما بعد .

إذن القطع مع الجانب الوجداني أفسح المجال إلى الجانب العقلي المبتور من واحد من أهم روافده : الإيمان. إهمال الجانب الوجداني كرس اجتماعية آدم وأهمل رسالته وهذا حيف على إنسانتة الفرد الإجتماعي...حيث لا بشرية بدون رسالة.  هذا المنطق الأعرج فتح الباب على مصراعيه لكثير من الاجتهادات النظرية التي فرضت هذا التمشي المتمثل في شطب الجانب الروحي الوجداني ...وعلى راس هذه النظريات نظرية النشوء والارتقاء والتي أخطر ما فيها هي تجاوز إنسانية أدم .

الاعتراف بالجانب العقلي فقط لآدم كرس اجتماعاته وجعل منها حجر الأساس لوجوده .فأصبحت بذلك الحياة الاجتماعية مجموعة علاقات سلوكية تربوية لا مرجعية أخرى لها خارج قناعات الأبوين والنظام التربوي السائد المكرس للأيديولوجية المهيمنة .ماذا نتج عن هذا المنطق؟ أصبح العقل أقرب للغريزة عند الحيوان همها المحافظة على وجوده المادي وهذا بتأقلمه وانصهاره في محيطه ...حيث أن الكلأ هو أساس الحياة مع الماء .وهذا حالنا اليوم أصبح العقل غريزة همها وجود تقنيات جديدة للعجلة الاقتصادية التي أصبحت محور الحياة .في سبيل دوران هذه العجلة الجهنمية تهتك الأرض والعرض وكما عند الحيوان الذكر المهيمن يأخذ شرعيته من قوته ...ولم يعد للقانون أو للأخلاق أي اعتبار.

الإنسانية في نموذجها الأول مؤتمنة على الإيمان ومضمونه كلمة التوحيد"إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا."(الأحزاب 72). إنسانية الفرد ليست بافتراض نظري خيالي بالعكس هو واقع ملموس لا تمثله اجتماعية الفرد في نموذجها اللغوي كما يفترضه علم النفس التحليلي .هذا البعد المسؤول عنه العقل" وعلم آدم الأسماء كلها"ولكن هذا العلم لم يعط هكذا لإجادة الشعر ...ولانتاج تقنية همها خدمة الآلة الاقتصادية بل كوسيلة للمعرفة  .المعرفة الأولى والأخيرة تبدأ وتنتهي بمعرفة الخالق. وهذا هو القصد من التمييز بين النموذج الإنساني الأول والصورة البشرية الأولى ومغزى إشارة المصطفى في حجة الوداع.."أيها الناس إن الزمان استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض " بمعنى به ابتدئ وبه أختتم وهكذا ومنذ البداية كان وجوده سر الوجود ورسالته هي الخاتمة للوحي .بعد أن أصبح للوحي دستورا القرآن ورسولا هو العقل.

فوق

المقال السادس

 كلمة التاريخ مفهوم يجب تقويم معناه . هل يقصد بالتاريخ التجربة الإنسانية أم المشروع الإنساني ككل  ؟ إذا كانت التجربة الإنسانية هي المقصودة معنى ذلك البداية للتأريخ ستكون انتصار الإنسان على الطبيعة لتحسين ضر وف حياته والتحكم في ناصيتها حتى لا تبقى حياته رهينة الأزمات من جفاف ومجاعات وأوبئة ...وتاريخه يكون في الحقيقة تدوين هذه الصراعات التي ستأخذ عناوين مختلفة.. السيطرة على مقومات رفاهته دون أي اعتبار آخر ؟ أما إذا كان المقصود تدوين المشروع الإنساني فصراعاته هذه تصبح جزءا  من تاريخه وصراعه الأساسي هو مع نفسه.  صراعه مع نفسه ، يحمل ضمنيا الهاجس الأكبر وهو:  هل لوجود إنسانية الإنسان من معنى أسمى من الحفاظ على الذات سواء بالمأكل والمشرب وبفرض السيطرة والنفوذ ؟..

التاريخ بمفهومه الحالي لا يمكن أن يكون إلا نوعا من التحايل لحجب البعد الإنساني الذي لم نعد ندر كيف نتعامل معه  وفي هذا السياق تكون المعرفة نوع من التأريخ ...لتحييد المسار عن مهمته وهمه الأول .

الخلط الذي أشرت له سواء أكان مقصودا أم لا ، هو سبب من أسباب العقم الإبداعي الذي وصلنا إليه اليوم ومهما كان موقعنا ...تابعين أو متبوعين. محورة الحياة حول الغرائز من مأكل ومشرب وسيطرة، وتسخير كل الطاقات لضمانها ولو بالقوة تحت مسميات مختلفة يمكن أن يلهم الحماس عند البعض ولكن هذا العامل ليس  بمعدن لا ينضب عطاء ه .

كل من يقدم على مشروع ...ومهما كان هذا المشروع لا بد من المرور بمرحلتين. المرحلة الأولى تتمثل في الجانب الدراسي  وهذا يكون بتحديد ماهيته و برسم أهدافه. أما والمرحلة الثانية فهي مرحلة الإنجاز   بجوانبها العلمية التقنية والآلية  : المرحلة العملية ، الإنجاز الفعلي .  المرحلة الأولى  التي لخصتها في ضبط الأهداف فهي  تحتوي على طبيعة المشروع  ولكل طبيعة عمل ، متطلبات علمية... تقنية  و تخطيط وتمشي وإيقاع. السؤال الآن  إذا أردنا بعد مدة الحديث عن تاريخ المشروع، متى يبدأ التأريخ له ؟ هذا حالنا مع تاريخنا ...تاريخ البشرية. لصعوبة إيجاد نقطة التقاء بين الاتجاهين المذكورين سالفا ، الاتجاه المادي، وغريمه ، اجتهد  كل منهما  حسب قناعته ...فتعقدت المسالك وتشابكت وهذا ما حكم في النهاية على العقل بالعجزوالعقم.

 نرجع للسؤال : ما هي بداية المشروع الإنساني ؟ متى إ ابتدأ تاريخ المشروع الإنساني ؟ وهنا نجد أنفسنا أمام معطيين . أولا النموذج الإنساني الذي وضع قبل الخلق ، والذي كما أشرت له سابقا ، المصطفي محمد ابن عبد الله عليه افضل الصلاة وأزكى التسليم "بُعثت وآدم لم يزل بين الماء والطين ". ثم  وقع خلق الصورة البشرية حجر الأساس في المشروع الإنساني : آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام . طبيعة المشروع ككل يفرض علينا الرجوع لواضعه أي الذي تصوره أول مرة وفي مرحلة ثانية المهندس والعامل الواقفون على تنفيذه .من أين لنا اعتمادا على الصورة فقط أن نأتي بمعلومات على بارئها. وهنا تدخل واضع المشروع  هو السبيل الوحيدة لمعرفة ماذا أراد بمشروعه الإنساني ، وهنا تنزل الحكمة من الوحي ومن بعث الرسل. وإذا أردنا أن نكون منصفين مع أنفسنا لا بد لنا بالتسليم اليقيني لهذا الأمر حتى نعرف حقيقة تأريخنا ومن ورائه الحكمة من خلقنا.

 المقال السابع

     المسيرة الإنسانية ابتدأت بكلمة التوحيد ، والمؤتمن عليها هو سيد الخلق الأمين. إذن لا يكتمل معنى التوحيد في جانبه الإنساني إلا برسالة محمد عليه أفضل السلام وأزكى التسليم. وكل من يسبق رسالته فهو مهيئ  له وليس بخارج عنه ولا مضاف إليه  ولا شئ  بعده فيما يخص التوحيد. الرسالة الخالدة هي التي جاء بها، وبعده لا نبي ولا رسول  "تركت لكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا :الكتاب والسنة".  بعد إبداع المعطيات التي ستوضع تحت تصرف هذا المكرم بهذه الرسالة، خلقت الصورة البشرية : آدم عليه وعلى نبينا السلام. وأُعطي ما يلزم لإتمام المسيرة وإنجاحها. وكذلك أُعطي مفاتيح التعامل مع محيطه"عُلم الأسماء كلها" ثم عُرض عليه من سيعمر الكون معه من ملائكة وجان وشياطين وحذر مما ينتظره من عقبات ستعترضه ...

     الواحد لا يعبد الواحد الكثرة هي التي تعبد الواحد.... ولا بد من إيجاد صيغة لهذا الغرض. ومن هنا كان إيجاد حواء. حواء لم توجد كنسخة  مطابقة للأصل من أدم ولكنها وجدت كصورة منه. ما معنى هذا؟ للأصل امتيازاته و للصورة المأخوذة منه كذلك . الامتياز هنا هو تكليف أكثر منه تشريف. في ماذا يتمثل هذا التكليف؟ في ائتمان كل منهما على ما  يحفظ المسيرة ويوصلها لغايتها. وهذا أمر أساسي أسيء فهمه لسوء الحظ. الأصل  أؤتمن على العقل. لماذا؟ لأمر مهم لأنه لا يمكن تصور مسيرة في غياب العقل... لهذا عُفي آدم من الطمث والحمل والرضاعة   الخ ... بالرغم أنه كان أم حواء" وضعه" لها كان بطريقة مخالفة جنبته كل هذه الجهد والعناء من طمث وحمل ورضاعه وما ينجر عليها من تعب و تفرغ مطلق لتربية النشء. في المقابل الصورة، حواء، كلفت بهذه المسؤولية الجسيمة ولكن هذا لا يعني أنها  ستكون قاصرة في كفالة الرجل. لا أبدا بل‘ عهد لحواء بمسؤولية جسيمة: ائتمانها على الفطرة، بما أنها الحاملة للرحم. وهنا تكمن مسؤولية حواء الخطيرة. لأنه إذا تعطل العقل، تعطله لا يهم إلا صاحبه أما إذا فسدت الفطرة ففسادها سيهم أجيالا بكاملها. ومن هنا يكون دور المرآة  في الحياة  أسمى وأفضل وأزكى من الدور التي حشرت فيه على أنها ناقصة عقل ودين ليسهل على الرجل استعبادها كبقية البهائم أوالمتاع...

      المسؤولية المتوازنة  الحكيمة  هي ضمان  نجاح المشروع الإنساني ككل وفي اختلاله  تعطله وفي تعطله عناء المكلف بالمسؤولية أولا وقبل كل شئ ،  لأن الله بالغ أمره... ومن هذا العناء الإحساس بالاغتراب على نفسه وعلى محيطه والاغتراب هو الطريق السيارة للضياع... وهذا بالرغم من اليسر المادي والاجتماعي والصحي والترفيهي والتعليمي الذي يمكن أن يعرفه. وأقرب مثال على ما نقول معاناة الغرب. فبالرغم  من التخمة التي تعرفها جل هذه المجتمعات وبالرغم من الديمقراطية التي يتمتع بها الجميع وحرية الرأي والتعبير ورفع الضوابط الأخلاقية والتربوية حيث لا مرجعية جماعية لذلك ،  إلا القانون الذي يضبط الحياة الاجتماعية... ورغم هذا كله فإن أعداد المنتحرين في تصاعد رهيب و كذلك الإجرام بجميع أنواعه والإدمان على مختلف أنواع المخدرات وجميع أنواع الشذوذ الفكري والجسدي والجنسي الخ ... الخ... وفي المقابل أصبح الإبداع في هذا الجو وفي هذا الإطار يحوم حول نوع من التقنية الحرفية همها السبق لمزيد من الربح بالتفنن في خلق حاجيات ورغبات طفيلية تخدم الغرائز والأنانية على حساب كرامة الإنسان الأساسية من تعليم وعمل وصحة الخ ...وثقافة هزيلة منطلقها ومرجعها الغرائز وكما يقول المثل العربي "إذا لم تستح  افعل ما شئت" وإذا بالمعابد لعبادة الشيطان والنار..و..و ..تقام باسم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وتفتح الهياكل وتنظم المهرجانات الصاخبة للشذوذ الجنسي والفكري وهذا كله باسم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

فوق

المقال الثامن

  من هذا المنطلق ماذا يمكن أن تكون الحداثة ؟ الحداثة ليست بحكر على فكر أو زمان أو مكان معين. الحداثة صفة من صفات حركة الوعي الإنساني بذاته. ولولا الحداثة لما خرج الإنسان عن السعي لإشباع غرائزه.  ولكن الإنسان لم يقف عند هذا الحد بل سعى إلى ما وراء ذلك. البدائي الأول سعيه لضمان كفافه لم يكن  منفصلا ضمنيا عن متطلبات إنسانيته.

   إذن ثقافة الحداثة  لا يمكن أن يكون لها شرطا غير شرط المعنى... المعنى الذي يعطيه الفرد لوجوده  كإنسان وليس ككائن حي كبقية الكائنات وهذا متجدد عبر العصور. هذا المعنى غيب وعوض بدور الإنسان في الحياة. والحياة هنا يقصد بها الحياة الإجتماعية. وبناءا على هذا أصبح دوره يدرس كما يدرس دور الملكة في خلية النحل الخ...الخ....  دور اجتهدت نظرية النشوء والارتقاء ومن ورائها المدرسة السلوكية فرضه.  وهم بذلك يجانبون الصواب.  لأنه لو كان الأمر كذلك  ما الذي جعل البدائي الأول يتجاوز متطلبات قوته اليومي على خلاف بقية الكائنات التي قاسمته الطبيعة التي يعيش فيها؟ لأنه مسكون بهاجس أخر غير متوفر عند بقية الكائنات. وما أظن أن هذا الدافع يقف وراءه العقل فقط بل إنسانيته هي التي تحمل هذا المعنى، لأن عقله في مرحلته تلك لا يزال في سباته العميق.

 

   الضغط اليومي  غيب طرح السؤال : هل لإنسانيتي من معنى ؟ وعوضته الأيديولوجيات التي تحتكر توجيه الآراء وتصنعها إلى هل لاجتماعيتي من معنى ؟ حيث يقع التركيز على دراسة دوره فيها ... وانتهت كل الأدوار إلى دور واحد : الدور الإقتصادي.  بذلك عوضت الحياة الاجتماعية الضيقة  رسالته النبيلة التي كانت السبب في تكريمه عن بقية المخلوقات. وعوض التسامي في البحث عن معنى وجوده أصبح يشقى في طلب كفافه. فأصبح المحرك الأساسي له الخوف... وللتعايش مع هذا الخوف لا بد بإيهام النفس أنه يقبض بناصية كل مقومات حياته فأله العقل بعد قطعه من/وعن جميع مرجعياته...  وهذا نوع من الهروب إلى الأمام لا يمكنه أن يعمر طويلا. هذا الهروب إلى أمام  استوجب وضع طقوس تحت مسميات مختلفة... منها الحداثة.

  الحداثة من هذا المنطلق هي وقف على الحياة الاجتماعية وهمها تقنين السلوكيات العامة لضمان نوع من السلم الاجتماعية اللازمة للمسيرة الاقتصادية بالأساس. وهذا النوع من العلاقات سيفرز بالطبع نوع من الثقافة  تخدم المرجعية العليا القابضة ب/وعلى ناصية الأمور. وبحشر الفرد في اجتماعيته ومتطلباتها وبالسهر على توجيه متطلباته وحاجياته يصبح سجين لغرائزه التي تتفنن الآلة الاقتصادية في استباق رغباته وتوجيهها بالقدر الذي يجعله رهينة... وفي هذا المناخ يصبح كل شيء يخضع لمنطق" السلعة" كل شيء يباع ويشترى.. العرض الشرف الجنس.. الهمم الخ... الخ. وكل هذا باسم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان... وعنوانها الكبير الحداثة وما بعدها...  

  غياب المعنى قلنا يدفع للهروب إلى الأمام.. وللهروب إلى الأمام طقوسه وكل غاية هذه الطقوس وجود المبررات العقلية، في غياب المبررات الأخلاقية، لفرض نوع من الرضى والقناعة كتعويض للطمأنينة المفقودة.  وكما نرى رغم تفنن العقول في إيجاد هذه الأوهام... إلا أن الوهم يبقى وهم وعمره قصير. وهذا سر الحيرة التي تعيشها البشرية اليوم من شرقها إلى غربها فلا المجتمعات التي تعاني من التخمة اطمأنت وسعدت ولا التي لم توفق في توفير الكفاف لشعوبها راضية مطمئنة...

    التحكم في ناصية الرغبات بإيجاد طقوس اقتصادية وثقافية وفنية... وهم.  لماذا؟ الرغبة بدون رادع قوي من جنسها لا يمكن السيطرة عليها. الغريزة رادعها ليس العقل المجرد بل الضميرو الضمير مرجعيته الفطرة  التي بدورها رافد من روافد العقل  في غياب هذه الآلية ما كان بالأمس لا يجرأ أحد التفكير، مجرد التفكير فيه ، يصبح غدا مرغوب فيه وبعد غد مباح وتتحرك القرائح لإيجاد المبررات. ومن هنا وقع التلاعب بأبعاد إنسانية الإنسان فشطب البعض واحتفظ بالبعض وأله البعض. شطب الإيمان واحتفظ بالغرائز وأله العقل. وإذا بهذا العقل يسقط فريسة للغريزة في غياب الرادع لها.

فوق

المقال التاسع (سبتمبر 2005)

  غياب الرادع الفطري وقع تعويضه بالرادع العقلي : الدولة  متمثلة في القانون ، وظهور الدولة في مفهومها العصري هو شكل من أشكال الحداثة في زمانها. لكن هذا التنظيم بدوره عوض  في الغرب نمط سابق من الحكم ، حكم رجال الدين الذين كانوا يحكمون  باسم الرب. وكان مبتغى الكنيسة الأول الأخلاق. وباسم هذه الأخلاق سجن العقل. الدولة لم تأت لضمان الأخلاق بل لضمان نوع من السلوكيات العامة التي من دونها تصعب الحياة الاجتماعية ...ومرجعيتها بطبيعة الحال ستكون غير مرجعية الكنيسة فوضع القانون الذي يمثل العقد الاجتماعي بالأساس عوضا عن الكتاب المقدس  الذي كان يمثل العقد مع الله... أصبح الدستور الركيزة الأ ساسية والمرجع الوحيدة للجميع. لكن الدولة كصيغة عقلية ، غير ناضجة ، للوعي الإنساني هي قابلة للتطور و للتحريف كذلك  لأنها لو تصل للكمال يوما ، تكون غير قابلة للتطور وفي ذلك نهايتها ...وهذا ما وقع فعلا . ويسري عليها الآن ما سرى على الكنيسة ..أصبحت مؤسسة لحماية مصالح الطبقة الماسكة بناصية الحياة الاجتماعية ...الماسكة بناصية الاقتصاد بتعلة المصلحة العامة ومعها سجن الضمير . وهكذا أصبحت الحياة الاجتماعية بعد أن تخلصت من أخلاقها مع الكنيسة ومن ضميرها مع دولة الحداثة يحكمها مرض الأفراد الماسكين  بناصيتها  لكن باسم الرب وبإلهام ذاتي كما يزعم رئيس أكبر قوة قهرية في العالم وعلى ممر العصور،  وهذا ما تعاني منه البشرية اليوم.

    أصبحت الدولة التي كانت يمكن أن يكون لها دور مخالف تماما لما قامت عليه وهذا بتحديد دور أسمى من تصريف الحياة الاجتماعية تحت طائل الردع : نشر الطمأنينة عن طريق الإحسان . والإحسان هنا هو غير الصدقة التي يتفضل بها الغني على الفقير .الإحسان هو الجانب العملي للإيمان الذي بدونه لا يمكن للإنسان أن يتفرغ للقيام بدوره الذي من أجله خلق : إعمار الأرض كنوع راق من العبادة .حيث يكون الإيمان قلب الحياة والإحسان هو وسيلة العقل.

 

فوق

المقال العاشر (أكتوبر 2005)

   التردي الذي نعيشه غير مسبوق. هذا التردي هو نتيجة الانحراف التي عرفته المسيرة الإنسانية. هذا الانحراف  له مبرراته ومرتكزا ته التي هيـأت له الضروف والمناخ وعلى رأس كل هذا نجد تأليه العقل المبتور من مرجعيا ته الإنسانية... مع الوقت أخذ عهد الأنوار يبتعد عن أنواره حيث حُيد كل ما له صلة بالدين والأخلاق ثم الفلسفة ثم انحصر الأدب في ما يحرك الغرائز وفي ما يؤكد غربة الفرد والخيال الذي يفصله عن ذاته وواقعه، ونزل الفن  للقمامة للبحث على ما يثير الفضول والاستغراب وأفلام الخيال والرعب هي التي تجمع المداخيل الخيالية... بجانب هذا حصر العلم في مجالات محددة حيث اقفل عليه في المخابر وأصبحت المادة الحية والميته تشرح بأجهزة عالية الدقة والفاعلية بها  يتم سبر أغوارها طولا وعرضا بما يبهر العقل نفسه... ونتيجة لذلك... أكتشفت الذرة وفجرت قدراتها الرهيبة في جميع المجالات... ورفعت القدسية عن الخلية ولازلنا نبهر يوميا بمحتوياتها... ووضعت الخرائط الجينية الخ... الخ...  ولكن في المقابل  نصدم يوميا بأمراض و أوبئة تستعصى عن الحل و إذا بالمعانات أكثر واكبر، ولم توفر الاكتشافات لا الآمان ولا الآمال المعلقة عليها فالفقر والجهل والمرض والعنف هم أكثر شيئا انتشارا وتوسع.

   ألا يستدعي منا، كل هذا،  وقفة تأمل؟ والسؤال الذي يتبادر للذهن لماذا هذا الذي وصلنا له؟ أنكتفي بتبرير عجزنا بأنه، كما يقول المثل لكل شيء إذا تم نقصان وان الحضارات ككل شئ في هذه الحياة تولد تنمو تكبر تشيخ ثم تمر وقد وصلنا إلى مرحلة أرذل العمر مع منطق الحضارة المسيطرة اليوم؟ الأهم في اعتقادي اليوم محاولة الفهم.  ما هو السر في هذا الاندحار الذي تصل له الحضارات بعد لحظات المجد التي تعرفها؟ وهنا لا اقصد ثقافة معينة فكل من تعاقب على وجه البسيطة عرف هذا المآل. بمعنى آخر هل أن هنالك منطقا معينا يقود إلى ما ذكرنا؟ أم بالعكس هنالك حكمة خفية تسير الأمور على هذا المنوال؟ الجواب يبدأ بسؤال بسيط : هل أن للحياة معنى، معنى أسمى من المعنى الضيق الذي يفرضه تمش معين. إذا كان الأمر كذلك ما هو هذا المعنى وما الذي يجعل العقل يحيد عنه كل مرة لينحرف بذلك المسار وتؤول الأمور كل مرة إلى ما آلت إليه سابقتها؟ وخاصة من يحدد هذا المعنى؟

       الحضارات هي فعل العقل، إذا قلنا الحضارة  فعل العقل فهل من المعقول أن يكون هذا الأخير الفعل والفاعل في نفس الوقت؟ إذا كان الأمر غير ذلك من هو هذا الفاعل؟ وما هي طريقة تدخله؟ السؤال الحاضر الغائب دائما في كل ما سنراه يرجع في الواقع للسؤال الآتي هل أن هناك سبب أعلى ينظم ويسير العقل وبيئته التي يعمل فيها.  لنرى كيف وقع تناول هذا الموضوع مع مختلف المفكرين التي استوقفتهم المعرفة كرائد في المسيرة الإنسانية.

فوق

المقال الحادي عشر (أكتوبر 2005)

  يتساءل فرانسيس باكون عن القانون العام الذي تنطوي تحته كل القوانين فيقول إن أول خطوة لدراسة الفلسفة تبدأ بدراسة الطبيعة، وبعد الوقوف على قوانينها  الخاصة بها ننتقل لدراسة القوانين العامة التي تنطوي تحتها القوانين الخاصة... وهكذا نتدرج صعودا إلى أن نصل إلى القانون العام  الذي تنطوي تحته كل القوانين  التي توقفنا عن البديهيات التي تكون صحيحة  في أي علم كان والتي بها تدرس الأسباب العليا للكون. ديكارت  عوضا عن البد يهيات استعمل الأفكار المباشرة ،  فقسم الأفكار إلى  ثلاثة أقسام : أفكار مباشرة تتكون مباشرة من الأشياء الخارجية  بدون استعمال الذهن، وأفكار صنعيه مركبة من أفكار مختلفة وأفكار فطرية مركزة في عقولنا. الأفكار المباشرة والمركبة هي عرضة للشك أما الفطرية  فلا. لأنها جزء أساسي  من تكوين العقل ومنها وعليها تبنى بقية أحكامنا. وهنا يلتقي تقريبا باكون وديكارت في نقطة تقاطع : الأفكار الفطرية والأفكار البديهية. باسكال سيجدد حيث يبرئ العقل   من المعرفة ويركزها  في القلب.  لماذا؟ لأن هذا الوعاء حسب باسكال هو الوحيد الذي يعرف الحق ويبرر  ذلك  بأنه وحده ، أي القلب ، الذي يعرف الزمان والمكان والحركة.  لذلك فالقلب هو الوحيد القادر على إدراك الحقائق الأولية. مالبرانش mal branche غير مقتنع بفكرة الأفكار الفطرية التي بواسطتها تدرك الحقائق قال بأن الأفكار الإلهية  هي التي تدرك العالم الخارجي ، الله يخلق الميول  والرغبات في الأرواح وهو الذي يحرك الأجسام وفق ميول الروح... سبينوزا Spinoza عكس برهنة فرانسيس باكون، البرهنة الصاعدة، المنطلقة من الأفكار البسيطة الجزئية...  واعتمد البرهان النازل أي إنه ينطلق من الكل إلى الجزء ولكن يربط ذلك بشرط : تنقية العقل حيث يقسم المعرفة إلى ثلاثة أنواع : معرفة تأتي عن طريق الإشاعة ويسميها :التجربة الغامضة، والثانية تأتي عن طريق الاستدلال والاستنتاج  و الأخيرة  تدرك عن طريق البداهة ويعتبرها أرقى أنواع المعرفة.  ينكر لوك الأفكار الفطرية  تماما، بالنسبة له كل شيء يأتي من التجربة.  يجزم لوك أن عقولنا خلقت خالية من الأفكار والحواس هي التي توصل للعقل مجموعة من الأحاسيس  يجمعها ويحفظها  ويقارنها ويدرك العلاقات بينها ومن خلال هذا التأمل ينتهي العقل إلي الإدراكات الأولية التي يظنها الآخرون فطرية وما هي في الواقع إلا أفكار كونها العقل بالتجربة وسمى لوك هذه الأفكار أفكار تمثيلية des idées représentatives وفي عقولنا نماذج لحقائق الأشياء وهي مقياس الأفكار.  وبناءا على هذا قسم لوك المعرفة إلى ثلاثة أقسام : معرفة بديهية و معرفة غامضة لا برهان عليها ومعرفة برهانيه. لايبنيتز اعترض على لوك ورجع إلى ديكأرت ورفض أن تكون التجربة هي كل شيء في المعرفة وقال بوجود حقائق ضرورية أسمى  من التجربة  ولكن لا يقع اكتشافها إلا بالتجربة لأنها موجودة في أذهاننا بالقوة.  

     كانط الذي يشبه في تمشيه الذاتي سقراط... لقد حارب سقراط السفسطائيين وكان عمله لا بمثابة الرد عليهم.. كذلك كانط  جاء بعد اكبر الشكاكين :هيوم. هيوم شكك في كل مرتكزات الحياة من علم ودين واخلاق.  وجاء كانط  فقطع مع مقولاته مؤكدا أن المعرفة لا يمكن أن تكون بالإحساس وحده بل بالعقل  وذلك لقدرته على تكوين المعقولات من الأحاسيس وكذلك مما وراء الأحاسيس أي من العلاقات الغير محسوسة.  بدا كانط بتساؤل: هل للعقل قدرة خاصة تمكنه من استنباط أحكام  إنشائية من ذاته دون اللجوء آو الاعتماد على المحسوسات أو على التجربة؟  للإجابة وضع قواعد لذلك... من هذه القواعد اعتبر مصادر المعرفة :الحس والعقل.  للعقل قوانين فطرية سماها قوانين العقل المنظمة وبها يدرك العلاقات القائمة بين المحسوسات فيكون في البداية إدراكا حسيا ومن هذه الإدراكات يكون مدركان عقلية و من أهم هذه القوانين، القوانين الفطرية لاحتوائها على فكرة الزمان  والمكان  وقانون السببية.  وبواسطة القوانين الإنشائية يكون العقل أحكاما إنشائية من ذاته لا يعتمد فيها على شيء آخر غيره وهذه حدود العقل عند كانط.  بمعنى إذا تجاوز العقل هذه الحدود التي يعتمد فيها على الضواهر وقع في الخطأ ، لأنه لا سلطان للعقل وراء الحس. هكذا بنى كانط نظريته في نقد العقل الخالص، القائلة بصعوبة  برهنة العقل النظري على ماهيات الأشياء.  ووضع نظرية العقل العملي. هذا العقل موجود في قرارة أنفسنا وهو عبارة عن شعور قوي  يأمر بالخير وينهى عن الشر.  ويتساءل كانط : من أين يأتي هذا الشعور؟ ويؤكد عدم قدومه من الإحساس ولا من العقل. لماذا ؟ لأنهما الاثنان يعملان على صورة الأشياء... وموضوعه لا علاقة له بصورة الأشياء بل بمضمونها فهو قانون أخلاقي فطرت عليه نفوسنا كما فطرت عقولنا على قوانينها المنضمة.  وبهذا القانون الأخلاقي يستدل كانط على حرية الإرادة ، وبحرية الإرادة على خلود النفس وبخلود النفس على يوم الدين.

.فوق