قراءات نفسيــــــــة

 

بحث من الرّوح إلى النفس

 

1. الروح في المعتقدات الفرعونية

2. الرّوح في المعتقد الفيدي عند الهندوس

3. الروح عند الهلينيين

4. الروم والديانة المسيحية

5. الروح في الإسلام

6. الصراع الأزلي من وجداني فلسفي إلى مادي فكري

7. العقل الغربي يعيد صياغة إشكالية البشرية.. بتصرف.

8.  من علاقة الروح بالجسد إلى علاقة العقل بالجسد ...لتبرير السلوك

9. الإرتباطية

10. خلفيات المدرسة السلوكية

11. المرض كحافز لإعادة النظر في المسلمات

12. آخر حلقة في بحث من الروح إلي النفس

 

أودّ التعرّض في هذا البحث إلى مسألة الرّوح و النفس. و تعرّضي لهذه المسألة سيكون من خلال تعامل العقل البشري معهما. سأحاول التوقّف على المسافة بينهما لأرى إذا ما يمكن اعتبارها مسافة زمنية أم أنّها في الحقيقة مسافة حياتيّة؛ و هل أنّ التعرّض لهذه أو تلك، في تاريخ البشرية كان محاولة للفهم و التفسير فقط،أم أنّه يخفي دوافع أخرى؟ وهل أنّ الحديث عن الروح قديما مخالف لحديثنا عن لنفس اليوم؟ أم أنّ الحديث عن هذه و تلك هو مجرّد تعبير عن حيرة أعمق، ولكن لكل ّعصر أدواته و إمكانيّاته  وكذلك لغته...للتعبير عن حيرته و الإنسان بتناولهما أو بالتفريق بينهما لم يضف لإنسانيّته شيئا يذكر؟ أو بالعكس هل مكّن هذا التمييز بينهما من توضيح عدّة جوانب لم يكن لنا أن نكون على بيّنة منها لولا هذا التجديد؟ أم هل أنّ المصطلحات هي التي تغيّرت و تطوّرت وبقيت المضامين و بالتالي الحيرة نفسها؟

    سأبدأ بمحاولة فهم الدوافع التي تقبع وراء حرص الأوّلين على الاقتراب من الروح؟و ما السرّ في دفن اللاحقين لها و حملهم لواء النفس؟ و ما السرّ كذلك في " إعطاء" النفس لغير العاقل؟ لأنّه كما هو معلوم أصبح من المسلّم به في الغرب وجود النفس عند الحيوان...

وأصبحت نفسية الحيوانات تدرس و فتحت العيادات لذلك..بطبيعة الحال العقل الذي لا ضوابط له لا يعرف حدودا...فأصبح اليوم الحديث عن نفس النبات، فهذا يتحدّث على نفسية الأزهار و الآخر على نفسية الأشجار الخ...

    إذن سأتابع هذه الرحلة التي بدأت مع الأديان و مرّت بالفلسفة وانتهى بها المطاف مع علم النفس المخبري و التحليلي.

  1. الروح في المعتقدات الفرعونية

    الاهتمام بالروح سواء عند الفراعنة أو عند الهندوس كان متعدّد الأبعاد. لكنّ الفكر البشري ببعديه الوجداني و العقلي، في انبلاجه الأوّل ركّز على الروح، فتعرّض لها، محاولا معرفة طبيعتها و كذلك كيفية نزولها من الأعلى إلى الأسفل و أعطى أهميّة خاصة تقريبا لمعراجها....من الأسفل إلى الأعلى أي مفارقتها للجسد الذي تسكنه و صعودها إلى الأعلى...

و هذا الجانب الذي سأركّز عليه أكثر من الجوانب الأخرى في بحثي هذا.

    إنّ تركيز الفكر البشري على الروح ككل و على صعودها، لا بدّ أن تكون له دلالة و هذا ما نستشفه مثلا من اعتناء الحضارات الفرعونية بتحنيط الأموات...فتحنيطهم للجثث يحمل في طيا ته عدّة اعتبارات في اعتقادي؛ لأنّه لا يعقل أن لا يقصد بهذه التهيئة إلا الاحتفاظ بالجثث إلى غاية "عودة الروح" لها فقط؛ ولا أظنّ أنّ رجل الدين الفرعوني لا يعطي أيّ اعتبار لصعودها و لا يهمّه إلاّ عودتها، و إلاّ أين ينزّل الحساب الذي تتعرّض له الروح، روح الميّت؟ فالروح حال مغادرتها للجسم تمرّ بمحطّتين على الأقلّ: محطّة قريبة، الأعلى القريب نجد فيه بجانب الإله فرعون آلهة المقاطعات المصرية، و من هنا تهيئة الأموات لا يمكن أن لا تحمل في طيّاتها قرب الجثّة من روحها أثناء محاسبتها؛ و على ضوء هذا الامتحان الذي يوضع فيه الفرد أمام ميزانه يتقرّر مصيره في المحطّة الثانية: الأعلى البعيد, ففي المعتقدات الفرعونية عندما تفارق الروح Ba الجسد المادي، تلبس جسدا جديدا؛ و هذا أساسي بالنسبة للعقل الفرعوني و العقل البشري عامة الذي لم يرم بعد فكرة التجريد، مثلما سيكون الحال فيما بعد مع الهلينيين. تكتسي الروح في معراجها إذن، ثوبا جديدا أرقى من الجسد المادي الذي ستفارقه: جسد لا يقبل الفناء وهو ما يعرف بالKa و الذي يقابلKhat وهو الجسد المادي (عن الدكتور رؤوف عبيد. الإنسان روح لا جسد ص57.دار الفكر العربي).ويذكّرنا هذا الجسدKa بالجسد الأثيري عند المسيحيين؛ ولكن عند الفراعنة و رغم التباين بين الجسدين فهم لا يعتبرونه مثلما هو الحال عند الهندوس سجنا للروّح، فهو كساء لها، والكساء يمكن أن يكون رقيقا ناعما مريحا فترتاح فيه الروح ولا يمكن أن يكون سرّ سعادة أو شقاء الروح التي يحملها. إذن، إذا لم يكن الجسم البدني سجنا للروح، وليس سرّ سعادتها فما دوره يا ترى؟ دوره كما تقول الديانة المصرية القديمة:"يساعد المتوفى على التحدّث  إلى الإله الأكبر: رع...(مهدي فضل الله. بداية النقل بمصر.ص86 دار الطباعة بيروت).

    الديانة المصرية القديمة ميّزت بين الأدوار، أدوار البشر و أدوار الآلهة. المصري دوره الاعتناء بالجانب الميّت من الحياة: الجثّة. أمّا الإله الذي هو أصل الحياة فهو يهتمّ بالحياة الحيّة)أي الحياة نفسها(: الروح. فالميّت في حياته يعينه جسمه المادي على التواصل مع أبناء جنسه أصحاب الأجساد الميّتة. أمّا الرّوح»فتكتسي« ثوبها الجديد"ثوب الآلهة التي ستتعامل معهم. هكذا يتعامل المصري مع الرّوح، يفسّر بها ما يصعب عليه فهمه فكما يقول Sully Prud’homme في تعريفه لله:" (اللّه)هو ما ينقصني لفهم ما لا أستطيع فهمه"منقول عن دنيس هويسمان وفارجاس في فلسفةج 2 ص446 .مربو.)

    إذن المصري الذي يعيش خوفه الدنيوي من الموت وجد الوسيلة لتجاوز خوفه و خاصة قلقه. لأنّ خوفه العصابي، ليس من الموت في حدّ ذاته بل من تفكّك جسده في المغارة المظلمة التي هي القبر هذا ما لا يتحمّل الحيّ التفكير فيه و بتالي تصوّره. وجد المصريّون الطريقة لتجاوز هذا الخوف وذلك بضمانهم عدم تحلّل الجسم في التراب. فالمحنّط يبقى كما هو...وبذلك  تحوّل الخوف من الموت إلى الخوف من الحساب. فالحساب عندهم طريقة للتأكّد بأنّ الحياة تتواصل؛ حيث أنّ الحساب لا يكون إلآ للحيّ؛ و كذلك للجسد بالتحنيط، فكأنّي بلسان رجل الدين المصري يقول: ممّ تخافون يا ترى؟ و هنا لا يخصّ الجواب الأموات فقط بل الأحياء منهم كذلك. " الخوف من فرعون سواء أكنت حيّا أو ميّتا "...و بهذا يكون المصري في حاجة إلى فرعون في حياته و مماته، بمعنى في الأرض و في السماء. و هنا يلتقي رجال الدين المصريين مع معتقد الهندوس الذي يقول بأنّ الكون هو تسبيح من كيان الّله...إذ يتواصل عندهم اللّه و الفرد في هذا التسبيح.

 2. الرّوح في المعتقد الفيدي عند الهندوس

    يمثّل"  براهما " في معتقد الهندوس اله الخالق، و " أتما" فرعا منه...ممثلاّ بذلك النفس الخالدة في الإنسان...و من هنا كانت جوهر فكرة الخلود عندهم.

    " الأتما " تنفصل عن " براهما " و منذ انفصالها يبقى همّها الرجوع و الانصهار فيه من جديد…فهذا الانفصال معيش عندهم على غرار التكاثر النباتي. حيث ينفصل الفرع عن الأصل حاملا كلّ مقوّماته إلى أن يعود الفرع أصلا في البذرة…و هكذا دواليك. الفرع موجود في المقام المقدّس…المقرّ النهائي للآلهة الخالدة. و على خلاف ما رأينا عند الفراعنة تنطلق الروح مباشرة من الجسد إلى الأعلى أي إلى الإله…الصالحة يأخذها "ياما و يرفعها للجنّة مباشرة حيث تنعم بكلّ اللّذائذ الأرضية التي تكون بدورها قد إستوت و أصبحت أبدية.

    يشبه الوصف الفيدي لعلاقة " أتما " ب "براهما " ما يعايشه الفرد في تحليله النفسي مع بقايا ميثولوجية حياته عندما كان جنينا في بطن أمّه…يعيشها الفرد و كأنّها جنّته المفقودة…و هذا ما يعيشه بغض مرضى العصاب من انكماش و انعزال في مكان مظلم…في اجترار خيالي لأمنهم الجنيني…فالجنين يشبه الفيدي في جنّته. الجنين في بطن أمّه ينعم بجميع خيرات الأرض التي تتغذّى منها الأمّ و لا تصله إلاّ " رحيقا " مصفّى.

    إذن يمكن، اعتبار الفيدي في جانب من جوانب ديانته، يعبّر حياتيّا عن ميثولوجية حياته الجنينية في غياهب ظلمات بطن أمّه، ولوعة فراقه لجنّته مع ولادته...و لا شيء في اجتماعياته يعوّض له انبهاره الأبدي بالطمأنينة و الرّاحة و السعادة التي عرفها هناك. هذا الانبهار فعّال و أخّاذ عندهم، الشيء الذي يدفع بالكثير منهم إلى النكوص حياتيّا و رمزيّا إلى هذا المكان: بطن الأمّ، حيث يدفن بعض محترفي الYoga أنفسهم في قبور مهيأة لهذا الغرض و لا يحتفظون معهم إلاّ بالقليل من الطعام و الهواء. هكذا ينقطعون عن العلم الخارجي في خلوة قاسية...في محاولة منهم للسيطرة على الجانب العضوي الذي يسجن الرّوح و يمنع انطلاقتها.

    أعتقد و بناء على تجربتي في التحليل النفسي أنّ الفيدي لا يتسامى إلى الفوق...بل ينكص إلى الوراء، إلىحياتة الجنينية حيث كان أمنه و كانت راحته.

    إذن عكس الفرعوني الذي كان يخاف موته و تفكّك جسمه في التراب؛ الفيدي مبهور بحياته الجنينية التي فقدها لحظة ولادته. ولا سلوى له إلاّ اعتقاده أنّه ملاقيها في لحظة تشبه لحظة الولادة: لحظة الموت.

    الفيدي لا يخاف موته لذلك يسعى لها. لأنّه يقرنها رمزيا بلحظة و لادته، فهو لا يحمل عنها شعوريا شيئا يذكر أمّا حياتيّا فلا سلوى له عن بطن أمّه.

    هناك تشابه بين المعتقدات الفيدية و التصوّر الهليني للروح؛ لنرى ذلك.  

3. الروح عند الهلينيين

  هناك تشابه بين المعتقدات الفرعونية والفيدية والتصور الهليني للروح. الأرواح عند الهليني تمثل الهة..وهذا ما رأيناه في علاقة" أتما"" ببراهما " مع الفرق فان آلهة الهلينيين هي آلهة متخصصة. يتمثل المعتقد الهليني أن جوهر الإله ينزل  ويسكن الجسد وبهذا يكون الإغريق" قد وضعوا الإنسان في منزلة أقرب إلى الآلهة مما وضعه المصريون والبابليون في مواطن كثيرة "( مصطفى حسن النشار.فكرة الألوهية عند افلاطونص27). ولكن الآية انقلبت  مع الهلينيين .لقد نزلوا الآلهة من الأعلى وقربوه من الإنسان  مثلما سيفعل المسيحيين فيما بعد مع "الرب عيسى"..وهذا من بدايات علامات التجريد عندهم. فالديانة الفرعونية و الهندوسية كانت تتبع التجربة اليومية وتلتصق بها في معاملة الذات مع غير الموجود. وهذا ليس بوقف على التعامل مع الغيب ولكن نجده في أسس علومهم كذلك" الرياضيات مثلا مع المصريين والبابليين تطورا كبيرا  ولكنها تبقى تجريبية. مثلا عندما يريدون ضرب عدد ما في 3 كانوا يضيفون الضارب إلى ضعف المضروب. هم يتصرفون بطريقة عملية ولكن هذا لا يعني انهم اكتشفوا نظرية الضرب. أما الهلينيون  ففرقوا بين نوعين من الحساب فن الحساب و الحساب النظري"(عن عبد الرحمان بدوي ربيع الفكر اليوناني ص 9-1.) . توصل العقل الهليني إذن إلى تجاوز التجربة إلى البحث النظري الصرف الذي يتجه كما يقول عبد الرحمان بدوي إلى الكشف عن الحقيقة وحدها( نفس المصدر السابق ص 12) وكما يقول مصطفى حسين النشار" فهم اعتقدوا في الآلهة ولم يكن لديهم آلهة"(نفس المصدر السابق ص 26) .وتنزل هنا في اعتقادي مقولة سقراط " إن الفيلسوف الحق هو الذي لا يشغله عن التفكير في الموت شاغل"( الدكتور رؤوف عبيد وكيل كلية الحقوق جامعة عين شمس. الإنسان روح لا جسد.ص 69 دار الفكر العربي) .وهكذا مع سقراط وضعت النقاط على الحروف.حيث ميز بين الخوف والبحث العقلي أي التفكير  في الموت لم يعد يقاس هوسها بل يطرح عقليا. لم تعد الموت مع الهليني تتناول بواسطة كما كانت مع الهندوس والفراعنة. الهندوس أخذوها من جانب الروح والفراعنة تعاملوا معها من خلال تحنيط الجانب الميت في الإنسان أي الجثة أما الهليني فيأخذها من الجانب  العقلي البحت. وهذا ما سنجد أثره بعد عدة قرون عند الفلاسفة الوجوديين وخاصة عند البار كامو مع اختلاف يكمن في أن سقراط كان يبحث للروح عن مخرج فكري لتنال السعادة الأبدية في العالم الآخر أما كامو فهمه سعادته الدنيوية.أما ما يحرمه منها  من متعته المادية ليس جسده بل الموت..الخوف من الموت.الخوف من الموت المسلولة فوق رقبته كسيف ديموقليس . وبصفة أدق فان الذي يخيفه ليس الموت في حد ذاته بل وقت نزوله...خوفه يكون إذن من عدم معرفته موعد الموت..وهذه الحيرة هي التي تحول بينه وبين متعته الدنيوية. لأن في متعته لا يفرق بين ما هو مادي وما هو معنوي... كامو كان يبحث عن حل لغز نزول الموت ..متى سيموت ؟ هذا شغله الشاغل ومتى ارتاح من هذا الشغل تفرغ كليا لممارستها بكل راحة بال إذا صح التعبير..عند سقراط الأمر يختلف. بالنسبة له الفرد عاجز عن إدراك الحقيقة ما دام هنالك جسد.  الإغريق عكس الوجوديين لم يستطيعوا سبر أغوار قلقهم الدنيوي واقعيا فحاولوا تجاوزه عقليا. من هنا نستنتج  أن الباعث عن القلق هو ما يختفي وراء الروح أي الموت في جانب هام منه.

 أبح الموت مع سقراط موضوعا فكريا .افلاطون ذهب أبعد من ذلك. يقول أفلاطون مواصلا بناء معلمه في برهان الضدين" أن صلة الحياة بالموت شديدة الشبه  بتلك العلاقة التي توجد بين اليقضة والنوم. فكما أن الفرد ينتقل من اليقظة إلى النوم ومن النوم إلى اليقظة كذلك ينتقل من الحياة إلى الموت ومن الموت الى الحياة. والانتقال إلى أحد الضدين لا مفر منه. ولو كان الانتقال في الحياة واحدا لا اختل التوازن الطبيعي" ( الدكتور رؤوف عبيد نفس المصدر السابق). نلاحظ كيف أن خطوة جديدة  قطعت مع افلاطون. لقد نزع عن الموت قناعها المخيف وأدخلها في الحياة الحية إذا صح التعبير..) هكذا أصبحت معه الحياة الميتة التي كان الفيديون والفراعنة يحاولون ترويض أنفسهم على قبولها من خلال طقوسهم وعباداتهم ومعتقداتهم بصفة عامة ركيزة من ركائز الحياة وبعدا جميلا كالحلم في النوم بعد أن كان كابوسا قبيحا يؤرق البشرية فموت الحي في نومه كحياة الميت في اخرته.

 مع أفلاطون يكاد قلق الموت  الذي تحدث عنه فرويد فيما بعد أن يختفي تماما. فكأن لسان حاله يقول مخاطبا كل حي-ميت فينا هل تشعر كيف تنتقل من اليقظة إلى النوم؟ لا بطبيعة الحال. وهل تشعر في نومك بالذي يدور حولك؟لا بطبيعة الحال. ولكن هل تعيش ما يدور داخلك؟ والجواب أي نعم..بما أنك تعيش حلمك وتتذكره في يقظتك..كذلك الحال بالموت. لحظة المرور  إليها لا تشعر بها..فكما في نومك الذي حولك هو الذي يراك أما أنت فلا تراه كذلك في موتك الذي حولك هو الذي "يراها"...هكذا أصبحت الموت مع أفلاطون نوعا من الحلم..فالحالم يمشي ويتكلم ويطير ويحزن ويفرح وهو في مكانه مسجى كالميت..عالم الداخلي كله حياة عكس جسده..وكأن الروح تتخلص في النوم من جاذبية الجسد المادي فتعيش انطلاقتها. هكذا أصبحت الموت بالنسبة لأفلاطون من بعد سقراط بعدا له ضوابطه الخاصة ينعم باستقلال  ذاتي عن الجسد حيل كان هذا الجسد أم ميتا.هكذا بعد أن كانت الروح بعدا وجدانيا مع سالف الأديان أصبحت بعدا عقليا مع الهلينيين..وستتواصل كذلك مع الأديان السماوية .. وهكذا بعد التواصل بين الحياة والموت نصل إلى الجزء الثاني من المعادلة التواصل بين الأرض والسماء..ويمثل الإنسان دائما حلقة الوصل بين جزأي المعادلة. فهو اله على الأرض بجسده هذا ما سنراه بأكثر وضوحا مع المسيحية التي تعتبر عيسى عليه السلام الاها في الأرض بجسده وفي السماء الاها بروحه.

4. الروم والديانة المسيحية

 اتبع المسيحيون نفس الاتجاه في المزج بين الإنسان ( ابن مريم) على أنه روح الله و الله. ولكن الحركة معهم عرفت انقلابا. فالإنسان لم يعد كما كان سابق ينتظر صعود روحه إلى السماء ليصبح الاها بل أصبح الله ينزل بروحه ليصير الاها بشرا على الأرض. من يعرف تاريخ العقيدة المسيحية يعرف خلافهم في القرون الأولى على طبيعة المسيح. وظل الخلاف مستفحلا حتى موت الإمبراطور  تيوديسيوس الثاني سنة 45. م وتولى مرقيانوس مكانه. وبمجرد توليه أعلن رغبته في عقد مجمع يوافق عليه البابا. وقع هذا الاجتماع سنة 451 م وأعلنوا"أن المسيح ابن الله الوحيد هو رب واحد في طبعتين بدون امتزاج ولا تغير". كان هذا الموقف ضد القائلين بالطبيعة الواحدة وبدون تقسيم أو تفريق.

  الروح مع الديانة المسيحية لم تعد هي التي تعلو لتتوحد مع الإله كما كان الأمر مع الفيدية أصبح مع المسيحية الله هو الذي ينزل إلى الأسفل متجسدا..في شخص المسيح. وهكذا أصبح بالإمكان الاقتراب من الرب في الدنيا قبل الالتحاق به في السماء. لكن المسيحية خطت خطوة أخرى مع فكرة عودة المسيح وكأنها بطريقة غير مباشرة تقول لمعتنقيها ليست الروح التي لا تفنى بعد الموت بل الجسد كذلك.. وبهذا تكون الكنيسة قد أعطت كل التطمينات لأتباعها ليتفرغوا للعمل لأخرتهم عوضا عن الخوف منها..

  النقطة البارزة الأخرى في المسيحية. هي إعطائها نموذجا حيا عن نزول الروح حيث لم تكتف كسالف الأديان بالاعتناء بصعودها لأن الروح معها لم تعد نظرة عقلية ومعتقدا فقط بل أصبحت واقعا ملموسا مجسدا والمسيح هو النموذج. وهكذا تكون المسيحية قد قطعت مع اليهودية الديانة الأم في تمثيل الإله. ثم يأتي القطع الثاني  فيما يخص بعث الروح . ففي الأسفار الأولى من التوراة لا نجد تقريبا إشارة إلى ما بعد الموت حيث يقتصر الثواب والعقاب على الحياة الدنيوية. فكل الأموات يذهبون إلى "شؤول" بمعنى أرض الظلام ولا يستثنى من شؤول إلا الأنبياء. ومن هنا كره اليهود للموت.

  الكنيسة المسيحية قطعت جذريا مع كل هذا ورجعت للتشخيص في تعاملها اليومي. هذا التشخيص الذي تجاوزه العقل الهليني والديانة اليهودية. الانقلاب الذي حصل ليس في الصيغة فقط بل في المضمون كذلك. كأن البشرية هنا في حاجة إلى هذه الوقفة ."الأيديولوجية" الهلينية كانت باسم العقل تميز بين طبقات المجتمع من رعاع وحرفيين وفلاسفة الذين هم أهل الفكر والذكر. فجاء الدين المسيحي ليقلب هذه" الأيديولوجيا "

على مستوى الخطاب الديني فخاطب الرعاع والحرفيين بلغة أهل العقل...لكن بطريقة بيداغوجية لا تعتمد على  التجريد بل على التشخيص. هذه الوقفة هي التي بدورها سيتجاوزها الاسلام. لماذا؟ لأنه بعد وقفة الكنيسة كان لزاما على العقل مواصلة تساميه..وكان ذلك في صيغة جديدة. لقد أضاف الدين الإسلامي للمنطق الهليني ضابطا هو الإيمان. وهكذا اتخذ اليمان جدليا العقل منهجا. وبهذا قطع التمييز بين الدين والفلسفة.

 5. الروح في الإسلام

  ظهر هذا في الإسلام حيث أن أغلب كبار مفكريه كانوا في آن رجال دين و فلسفة وعلم. علم بالمعنى الوضعي للكلمة حيث نجد فيهم الصيدلي والطبيب  والكيميائي الخ  الخ..

     لقد فرق الإسلام في تناوله للفرد البشري بين أبعاد تحديدا فميز بين الجسد والعقل والنفس والروح. ولكن رغم هذا التمييز وقع بعض مفكري الإسلام في حيرة نتيجة للاستعارة التي يستعملها التنزيل رغم التمييز المذكور. يقول الدكتور عدنان الشريف( عدنان الشريف. من علم النفس القرآني.ص 36.دار العلم للملايين)."وردت كلمة النفس في القران الكريم في مائتين وخمس وتسعين آية كريمة... ووردت النفس في بعض الآيات تعني كلمة النفس فيها ذات الله تعالى وصفاته). ومن هنا في اعتقادي جاء اختلاف اجتهاد المسلمين. فمنهم من رأى أن الروح هي النفس ومنهم من رأى عكس ذلك. ومنهم من رأى أن الروح هي الحياة..الخ.. ويلخص هذا الإمام قيم ابن الجوزية هذا الاختلاف قائلا" ما حقيقة النفس هل هي جزء من أجزاء البدن أو عرض من أعراضه أو جسم مساكن له مودع فيه أو جوهر مجرد؟ أو هل هي الروح أو غيرها؟.."(ابن قيم الجوزية. الروح. ص274-273. دار الكتاب العربي). ثم يجيب ( ص272) فالجواب أن هذه مسائل قد تكلم الناس فيها وكثر قيها خطوهم... قال أبو الحسن الأشعري في مقالاته اختلف الناس في الروح والحياة وهل الروح هي الحياة أو غيرها؟ فقال النظام الروح هي جسم هي النفس ورغم أن الروح حي بنفسه.. وكان الجبائي يذهب أن الروح جسم وأنها غير الحياة والحياة عرض ويعتل بقول أهل اللغة خرجت روح الانسان... وقال قائلون ليس الروح شيئا أكثر من اعتدال الطبائع الأربع التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة." وكما هو معلوم يعد الشيخ ابن سينا فيلسوف الإسلام فيما يتعلق بالروح. فهو الوحيد تقريبا الذي لم يتأثر أو بالتحديد لم ينح نحو الغير في هذا الشأن. إذ أن الفرابي تأثر مثلا بأفلاطون..حيث كما كانت النفس العاقلة هي جوهر الإنسان عند أفلاطون أصبحت  الروح جوهر عالم الرمز عند الفرابي( عن أحمد فؤاد.أبواب النفس ورسائل أخرى.ص 15). أما ابن سينا فقد انتهج منهجه الخاص في تعامله مع النفس. لأن الكل تحدث عنها وكأنها معلومة لديهم رغم الالتباس الكبير الذي أشرت اليه منذ حين. الشيخ قطع مع هذا انطلاقا من قناعته أنه لا يمكن أن نبحث في موضوع النفس دون أن نثبت وجودها. وهكذا انطلق ابن سينا من تحديد موضوعه قاطعا مع مناهج من سبقه....لا سيما من مفكري الإسلام الذين اعتمدوا على الالتباس المقصود في القران بين الروح والنفس ليقدموا كتابات تنقصها الدقة في هذا الشأن. ففي القرءان ذكرت الروح بمعنى معين والنفس بمعنى آخر كما ذكرتا بنفس المعنى السياقي. الشيخ تخلص من هدا الالتباس وكأن بلسان حاله يقول ما يقصده المولى عز وجل في تنزيله الحكيم يتعدى إدراكنا الآني لفهمنا ولا يعلم تأويله الحق إلا هو ولكن ما أقصده شخصيا عندما أتكلم عن النفس اعتمادا على ما تيسر لي فهمه من النص القرءاني... وفي حدود تطور العقل والمعرفة البشرية هو كذا.. وكذا. بهذا يكون ابن سينا قد وضع المنهج العلمي الصحيح وهو منهج سيحرفه الغرب بقطعه عصابيا بين الوضعي والأزلي. الغرب سينتظر القرن السابع عشر ليعرف هذه النقلة النوعية على مستوى اللفظ.. لأنه على مستوى المفهوم الغموض لا يزال مطلقا نسبيا إلى يومنا هذا. لماذا هذا الغموض عندهم؟ لأن منطلقهم لم يكن منطلق علماء الإسلام نتيجة نضج فكري بل كان نتيجة ردة فعل...على تعسف الكنيسة.

   المرور من الروح إلى النفس في الغرب جاء مع بداية القطع مع مرجعيات الكنيسة.. حيث المفهوم الوحيد الذي كانت تستعمله هو الروح.  قطع رجل الفكر الغربي وقتها لم يكن نتيجة تطور طبيعي للمفاهيم بل كان قطعا ايديولوجيا. هكذا أدخلت النفس عندهم عوضا عن الروح أي أنها لم تدخل كمفهوم إضافي بجانب المفهوم الأول الروح

بهذا ألغيت الروح ومن ورائها الفطرة... وأكملت المدرسة السلوكية إلغاء المشاعر والأحاسيس (مع بافلوف و واطسن). ابن سينا يعترف بالروح ولا ينفيها و الغرب ينفي وجودها ولا يعترف إلا بالنفس. يقول ابن سينا أن أول ما يجب أن نتكلم فيه هو إثبات الشيء الذي نسمي نفسا ثم نتكلم فيما يتبع (الشفاء الفن السابع من الطبيعيات .ص5 الهيئة العربية المصرية للطبع) ثم يواصل " من زام وصف شئ من الأشياء قبل أن يتقدم ويثبت.. فهو معدود عند الحكماء زاغ عن محجة الإيضاح (نفس المصدر). فهذا نضج فكري ومنهج البحث العلمي. في هذا الإطار يعرف ابن سينا النفس فيقول " أن أول ما يجب أن نتكلم فيه إثبات الشيء الذي نسمي نفسا ثم نتكلم فيما يتبع ذلك فنقول أنا قد نشاهد أجساما تحس وتتحرك بالإرادة بل نشاهد أجساما تتغذى وتنمو وتولد المثل وليس ذلك لها أي جسمها. فبقى أن تكون في ذواتها مبادئ لذلك غير جسميتها  والشيء الذي تصدر عنه هذه الأفعال وبالجملة كل ما يكون لصدور أفاعيل ليست على وتيرة واحدة للإرادة فان نسميها نفسا." .

  نرى كيف  يلتقي في آخر المطاف رجل الدين والفيلسوف والعالم. كل من منطلقه يعبر بصفائه عما يشغل الفكر البشري عامة.

6. الصراع الأزلي من وجداني فلسفي إلى مادي فكري

   حسب ما تقدم إشكالية الإنسان الوقوف على حقيقته. وهكذا يطرح ميثولوجيا قلقه التأسيس. صراع يمثل الموت فيه إحدى عناوينه البارزة. الصراع الأزلي  بين الموت والحياة. هذا الصراع هو الذي يحاول العقل السيطرة عليه...وفي هذا الإطار ينزل الاجتهاد.. اجتهاد رجل الدين والفيلسوف والعالم... هذا البعد القلقي فينا هو ما يعجز العقل عن تحييده.. وكما تناوله  من سبق ذكرهم وغيرهم يتولاه حاليا ومن منطلقات أخرى العلم. حاليا وبعد أن ألجمت الفلسفة وحيد الدين وادخل المتكلمون به في خانة الارهاب... اصبحت المعرفة أحادية الرأي. هذا ما يحاول الغرب تمريره بصفة انقلابية. وهذا لا يمكن إلا أن يذكرنا بموقفهم من الكنيسة المتكلمة باسم الحقيقة... وإذا بهم يتكلمون باسم نفس الحقيقة التي عابوها عليها.

 بعد أن كانت الروح عندهم هي الجوهر و الموضوع عوضتها المادة لتصبح هي الداء والدواء.

  الغوص في المادة رغم نتائجه التي لا ينكرها عاقل أوصلت العقل إلى عدة نقاط استفهام خطيرة حاول البعض تهميشها بادئ الأمر..ولكن مع تقدم العلوم أصبح المرور على هذه التساؤلات مستحيلا. ولهذا نحن مقبلون على تجاوز الكثير من المفاهيم  التي كانت تعتبر من المسلمات أي من ركائز الثوابت العلمية التي وضعت على أسسها النظريات.

  هناك فرع من الفيزياء كان في بداية القرن العشرين مهمشا ومع تقدم العلوم أخذ يفرض نفسه بطريقة لا يمكن الالتفاف عليها. هذا الفرع  هو الذي يختص بالمادة المضادة. هذا الفرع ومنذ البداية أدخل البلبلة في رؤوس المهتمين بالفيزياء. وخاصة الذين بنوا نظرياتهم على قناعات أحادية المنطق. عرف هذا الفرع اهتماما كبيرا في العشرينات من القرن العشرين. 

 كما هو معلوم بنى العلماء نظرياتهم لفهم الكون على المادة.. واعتبروها تمثل جوهر الكون.. المادة هنا باعتبارها بقايا المادة الأزلية الأولى. ولكنه اتضح فيما بعد أن المادة مرتبطة بالطاقة ارتباطا وثيقا إلى درجة عدم الفصل أو التمييز بينهما حيث يكون من خاصيتها المرور من حالة إلى أخرى. هذه الاستنتاجات لم تبن على هلوسة عقلية لبعض المتطفلين على الفيزياء بل إن أول من توصل لهل هو اينشتاين واضع نظرية النسبية.. وهي نفس الاستنتاج التي بنى عليها هذه النظرية. النسبية كنظرية بناها على مبدأين. المبدأ الأول تحديد سرعة الضوء في الفراغ (مع أنه الآن في بداية القرن الواحد والعشرين أصبح من المؤكد عدم وجود فراغ في الفضاء). وحدد سرعة الضوء كما هو معلوم ب3..... كم في الثانية.. وهو حد أقصى لا يمكن تجاوزه. أما المبدأ الثاني فهو مبني على تطبيقات المعادلة الشهيرة (2E=mc  ). ومن تطبيقاتها أنه عندما تلتقي جزئية (une particule) بالجزئية المضادة لها(son anti-particule يولد نوع ثان من الطاقة. نوع ثان مغاير. وكمية الطاقة الجديدة المتحصل عليها هي التي وضع Einstein معادلتها في E= mc2. ماذا يعني هذا؟ أن في آخر المطافlénergie  وla masse يصبحان وجهان لواقع واحد.

    في سنة 193. اقترح P. languevier التخلص من صيغة الشيء  la chose وl’objet في القطاع الذري والقطاع intra-atomique واعتبر وقتها اقتراحه ثورة كبيرة في la micro-physique في هذا الميدان ورغم محدودية الأدوات المستعملة حيث كان يستعملl ultra- microscope فقد أدخل ثورة في العقول بحيث أن التسلسل المنطقي لم يعد صالحا معه. ففي la micro-physique وقع انقلاب كلي في مفهوم الزمن وكما يقول J. Prieur  "هنا مثل التنبؤ الصادق المستقبل يمكن أن يسبق الماضي والمستقبل يمكن أن يلي الحاضر وهذا لم يعد غريبا في عالمنا اليوم."(J. Prieur نفس الصدر السابق ص 1.8).

  هذا العلم الذي كان يبدو أول القرن العشرين عجبا لم يعد اليوم غريبا بالنسبة إلى l astrophysique ويقول Prieur أصبح مألوفا عندما نعرف الطرق العلمية المستعملة للتعرف على عمر الكون مثلا. فهذه المحاولات ترتكز على الكواكب والنجوم التي انقرضت وانطفأت والتي غابت عن الوجود منذ ملايين السنين ولكن رغم انطفائها ضوءها ما يزال يصلنا نظرا لبعد المسافات المقطوعة. ولمعرفة عمر الكواكب على العلماء قطع المسافات المقطوعة ضوئيا كيلا بما أننا كما رأينا نعرف سرعة الضوء في الفراغ.. وهكذا يود les astrophysiciens الوصول إلى الزمن الغائب من خلال الزمن الحاضر لتحديد عمر الكون.

(أضيف في 12 ماي 2004)

لماذا أوردت كل هذا ؟ لأبين دخولا من باب الفيزياء كيف يلتقي الجميع الفيلسوف  و رجل الدين والعالم  و المفكر حول لغز الحياة .. يلتقي الجميع حيارى أمام لغز الحياة. إذن المجال الذري وخاصة « l’intra_atomique»أحدث ثورة في « La microphysique » حيث  وقع تجاوز النظريات القديمة لقوانين  l’atropieوكذلك لقانون المماثلة  « L’identique » بحيث أن قاعدة الفيزياء الكلاسيكية لم تعد صالحة في مجال « la microphysique » وأهل الاختصاص يعرفون العالم الأمريكي الذي أدخل مفهوم الغرابة l’étrangeté كقيمة فيزيائية في محاولة فهم الغير مفهوم أو ما عسر على الفهم وخاصة غرابةbizarrerie  سلوك بعض الأجزاءles particules. وعلى ضوء هذا يمكن طرح التساؤل التالي هل أنه بإمكانles antiparticules الجزئيات المضادة التجمع لتكوينl  anti-matière؟ العالم الفيزيائي Brook Haven أجاب بالإيجاب وأصبحت فرضية وجود l anti-hydrogène     الهيدروجين المضاد والزئبق المضاد الخ...الخ...مطروحة وبكل جد (وما يشاع أخيرا أن المسألة مسألة وقت لانتاج كل هذا بمعنى أن السبل معروفة والضر وف العلمية هي التي تمنع ذلك). وبهذا أصبح أمر الطاقة المضادة أمر لا يتناقش فيه عاقلان. الدكتورCowan وLibby المتحصلان على جائزة نوبل يقبلان فكرة وجود كواكب وأجرام متكونة من المادة المضادة. وهذا ما يؤكده يوميا التقدم المذهل في الاكتشاف الفضائية التي تتم بواسطة المراصد الجوية الحديثة... هذا الاكتشافات وضعت العلم والعلماء في حرج كبير إذ بدأ العمل على قبول المنطق الذي كان يعتبر مجرد خيال علمي. وهكذا قادت الجزئيات المضادة إلى المادة المضادة. فلم يعد مستغربا أن يثبت علميا وجود عالما مضادا. وهنا تلتقي ما كان يعتبر من الأضداد العلم المخبري وحس وفراسة رجل الدين.ما معنى هذا؟ هناك عالم مرئي و  أخر غير مرئي لكنه فاعل  وهذا ما يضاهي عند الفرد الوعي واللاوعي والسر( الوعي واللاوعي والهو) ولكن ما الذي يدخل البلبلة والحيرة في هذا؟ فهل اكتشاف هذا هو الذي يحير  أم على العكس عدم اكتشافه هو الذي كان يجب أن يبقى نقطة استفهام . أو أن الذي يقلق هو نوع من الكبر...أننا لا نقبل أن يكون شيئا.. بعد عقولنا...وقتها تكون المسألة في قبول  notre castration بالمعنى الديني والتحليل النفسي.

7. العقل الغربي يعيد صياغة إشكالية البشرية.. بتصرف.

   الإشكال في الأساس يكمن في معرفة الحدود والقبول بها.الحدودية تخص البشر كأفراد وحقب ولكن لا وجود لها على مستوى المجموعة أي كجنس.  تقاس همة المرء بإنسانيته وليس بذاته. تقدمنا العقلي والمعرفي لم يبدأ مع القرن السابع عشر ميلادي ...بدأ منذ أن وطأت قدم الإنسان الكون ...وهو متواص هذا ليس بمد متواصل على وتيرة معينه يعرف قفزات وبالتالي تراجعات  وهذا من سنة الحياة. الإشكال الثاني هو في تحديد المنهج حتى لا تختلط الأشياء . يقسم  محي الدين العربي المعارف إلى حسية محضة والى فكرية تستعين بالحس أو بالخيال وعقلية دنيا تعتمد على الفكر  وعقلية عليا تعتمد على البداهة دون أي حاجة إلى القوى الدنيا ويقول ابن العربي باستحالة وصول تلك القوى الدنيا  إلى معرفة الله ويرى أن الوصول إلى هذه المعرفة ممكن عن طريق العقل(عن عمر التومي الشيباني مقدمة الفلسفة الإسلامية ص 165.دار الغربي للكتاب). نرى من هنا كيف أن التمشي العربي الإسلامي يعتبر  أنه لا يجب تحميل العقل عجز ومرض الفكر العقل خلق لمعرفة الكون لعمارة  وخلافة الأرض..فما معنى أن تحمله قصورك في ما وراء ذلك.  ثم لماذا أننا لم  نقيم الدنيا ولما نقعدها عندما علمنا أن عيننا لا ترى معضم الألوان عكس الكثير من الحيوانات ... أو لماذا لا نحمل آذاننا عندما علمنا أنها عاجزة على التقاط الكثير من الأصوات والذبذبات؟.. هذا الخلط والالتباس وقع فيه الغرب .

   رأينا كيف أن العقل وصل مع الفيزياء الى طرح نفس التساؤلات التي كنا نظنها وقفا على الفيلسوف ورجل الدين..وكذلك علم النفس التحليلي مع فرويد.. الذي اصطدم في تعامله مع نفس العصاب  الى استحالة اختزال النفس في الشعور..رمزيا هذا ما يقوله في مجال آخر رجل الدين..حيث يجزم عدم مشروعية ولا معقولية إرجاع الكون الى مايرى والذي أتت الفيزياء لتأكده..الاقتناع بوجود  مكونات مضادة غير مرئية. وبذلك تكون بداهة رجل الدين وصفاء ذهن الفيلسوف قد سبقت المخابر والمراصد في التعبير عن حيرة  والقلق الوجداني للإنسان. فتهيئة رجل الدين الفرعوني الميت القصد منه لا يمكن أن يخلو من التعبير عن حاجته لمن يطمئنه لأنه كما قال الشاعر الشكاك الفرعوني

" شاهدوا حيطانهم/لقد حكمت حيطانها/ لا توجد بعد أمكنتها/ كأنها لم تكن أبدا/ لا يأتي أحد من هناك/ حتى يخبرنا عن حالهم/ حتى يخبرنا عن حظوظهم/ حتى تدخل السكينة قلوبنا / الى أن نرحل نحن أيضا/ الى المكان الذي ذهبوا إليه/"

(عن الدكتور فضل الله بداية التفلسف الإنساني عن كتاب تطور الفكر الديني في مصر القديمة ص4. 5-4. 7) فالمهم كما يقول الشاعر هي"دخول السكينة إلى قلوبهم" . أذن انشغال الإنسان منذ الأزل بالموت كقلق هو من المحركات الأساسية لهمة العقل. وهذا ما توصلت له الفلسفة الوجودية وخاصة مع فذ من أفذاذها Albert Camus . الكل يعرف قصته الشهيرة  الغريب"L étranger " التي عبر فيها عن قلق الفرد وغربته وعدم تمتعه بالحياة. Camusأرجع هذا القلق  وهذه الغربة إلى خوف الفرد من "قدره" أي من الموت. هذا الموت الذي أبدع في وصف قبحه وبشاعته في قصته La peste. بالنسبة له ما يحرم الإنسان من التمتع بحياته هو خوفه الباطني من الموت ولا سيما الموت المفاجئ الذي يحل بدون انذار. لهذا عندما  أصدر على الغريب في القصة التي تحمل اسمه الحكم بالموت ارتاح واطمأن.وكأن كابوس القلق قد رفع عنه وحينها تفرغ للغوص في ملذاته الدنيوية وبدون مبالاة بما ينتظره بعد الموت.لحظة الانعتاق عنده بالنسبة له ليست عند الموت أو عند تخلص الروح من سجن البدن بل عند التخلص من كابوس الخوف والقلق من مفاجأة الموت له.بهذا يتعارض Camus مع كل ما رأينا من الفلسفات التي ترى في الموت لحظة انعتاق.

8.  من علاقة الروح بالجسد إلى علاقة العقل بالجسد ...لتبرير السلوك.

   مواقف الكنيسة من العقل ومن العلم أوجد ردات فعل انقلابية لا عفلانبة هي كذلك ضحت ببعد من أبعاد الفرد البشري البعد الذي يمثل إنسانيته وكرست كل طاقا طها لبعده الاجتماعي . هذا  سبب من الأسباب الرئيسة التي غيبت البعد الوجداني فيه.  وكان كل المجهود موجه في اتجاه واحد إيجاد مفاهيم جديدة تقطع جذريا مع المفاهيم القديمة . هكذا وقعت التضحية بالروح واعتماد النفس كبديل وحيد أوحد. وبسرعة سخرت الطاقات لدراسة هذا المفهوم. وتكاثرت المدارس وتعددت المناهج . في البداية وقع الالتجاء إلى مناهج العلوم القائمة آنذاك ..ولم تستنبط النفس منهجها أو مناهجها الخاصة بها ..وهذا سبب من أسباب معاناتها إلى يوم الناس هذا. ويمكن القول  أن تاريخ علم النفس في شقه الغربي ما هو  إلا تاريخ تبنيه لهذه المناهج. لذلك كثرت انتقادات هذه المدارس لبعضها البعض وكثرت انقساماتها. فكما قال  جورج بوليتزار" فتاريخه(يقصد علم النفس) منذ خمسين سنة تبدو سلسلة من النقد أساسا نقد السيكولوجية الفلسفية القديمة على يد المدرسة المسماة ب"العلمية" ونقد السيكولوجية العلمية على يد أتباع فوندت ومن ناحية أخرى نقد سيكولوجية "العناصر " الأولى الميكانيكية على يد سيكولوجية"عناصر" تدعى أنها ديناميكية (كما هو الحال عند بر قسن) .... وأخيرا سيكولوجيا الشعور على يد السيكولوجية التي لا تعترف بالشعور ولا بالحيلة الداخلية عموما مثل سيكولوجية واطسن."(ج. بوليتزار علم النفس المعاصر ترجمة مصطفى رو بار ص 23 الدار العربي للكتاب) ومن المميزات لهذا الصراع إبراز الاختلاف على إمكانية اعتبار هذا الميدان علما مستقلا أم لا ؟ لماذا لأنهم في الأساس  عندما تخلوا عن البعد الإنساني الروح لم يحددوا قصدهم بالنفس. كل اجتهد و لكي يبرر صحة وجهة نظره استنجد بأحد مناهج العلوم القائمة...لماذا لكي لا يغرقوا تماما في الفخ الذي بترصدهم ...الفراغ الناتج عن التخلي عن مفهوم الروح.

  النفس في معناها العصري استعملت في حدود 1734 (استعملها Wolf في كتابه Rational Psychologie ) مع هذا كان اهتمام الأوائل بالنفس كموضوع مستقل ... ليس في ذاتها بل لتفسير السلوك الانساني.  بابان كانا يسمحان بتفسير السلوك الفلسفة والطب. وكما رأينا غلق باب الاعتماد على الفلسفة مبكرا فلم يبق غير باب واحد الطب. الطب هو الذي كان يقدم ما يود معرفته عن السلوك. كان هذا الالتجاء بديهيا في البداية فالكل يعرف أن جاليونوس هو القائل بالأمزجة الأربعة التي كانت المرجع لفهم الطبيعة الانفعالية مثلا. إذن انطلاقا من هذا المرجع وقع الاعتماد على المخ( الجهاز العصبي العلوي) في تفسير الضواهر السلوكية. ثم بتطور الطب وخاصة ما يهم علم الوضائف منه أصبح علم الوضائف بجانب المخ المرجع للتعرف على النفس. هذا الباب فتح المجال لفتوحات أخرىأعتمدت بدورها فيما بعد كمرجع ومنها التربية على سبيل المثال وخاصة عند الثالوث رو سو وبستالوتزي وفر وبيل الذين حاولوا تجاوز فكرة ميكانيكية التعليم وعوضوها بعملية ديناميكية التعليم التي تعتمد على استثارة الاستجابات الطبيعية عند الطفل وغرس المعلومات التي نود  تزويده بها. وأدى هذا في وقت من الأوقات إلى الربط بين علم النفس  والتربية مع هر بارت خاصة.فأصبحت التربية كأنها المجال التطبيقي لعلم النفس تقريبا. أما المناهج الأخرى التي استمات لفهم السلوك فهي مناهج العلوم الطبيعية وخاصة علم الفيزياء في التقائه بعلم الوضائف واستعمل لدراسة الإحساس. وكانت حاسة البصر هي التي نالت العناية الفائقة الأولى.وكانت لنظرية الألوان الثلاثة التي وضعها توماس بويغ الأثر الكبير في تحريك همم المهتمين بعلم النفس حيث لاقا انتشارا واسعا في جميع الأوساط وبطبيعة الحال تأثر بها المهتمون بعلم النفس واستعملوها لفهم الملكات  وترابط وتمازج الأفكار. هذا لا يجب أن يفهم منه أن عملية الارتباط ابتدأت وقتها فهي أقدم من ذلك بكثير.لقد بدأت مع الهلينيين تقريبا ثم أعيد لها الاعتبار عندما أخذت أسس المعرفة ترتكز في فهمها للسلوك بصفة عامة على الجهاز العصبي العلوي وصلته بالظواهر العقلية والبيئية. وهكذا بعد أن كان الخوض قي علاقة الروح بالجسد أصبح الاهتمام مركزا على علاقة العقل بالجسد وبالبيئة المحيطة به.ولكن هذا الاهتمام لم يكن وقفا على المهتمين بعلم النفس لقد تعداهم ووصل للفلاسفة. ديكارت تناولها على أنها علاقة تفاعلية ورأى أنها توارثية.  .وهناك من الفلاسفة من ترك أثرا بارزا في هذا الميدان من أمثال كانط  في مبدئه المشهور Transcendantal Unity Of Aperception مبدأه هذا كان نتاج آرائه في المفاهيم الرئيسية المعرفة الإرادة والشعور والإدراك فاعتبر أن مفهوم الذات النشطة هي التي تنظم الخبرة داخل عاملي الزمان والمكان وبهذا كان من حيث لا يدري المبشر الأول لل gestalt الوضيفية. نقطة الاستفهام الوحيدة مع كانط كانت في عدم اعترافه بعلم النفس كعلم  مستقل عن الفلسفة. ولهذا لم يبق اسمه بارزا في هذا العلم.

أضيف في 12 ماي 2004

9. الإرتباطية

    في سنة 1812 نشر دي بريان كتابه " مقال في أسس علم النفس" ولكنه لم يتعرض فيه لعلم النفس ذاته بل لأسسه. ولهذا كان هو البادي بالاعتراف بعلم النفس  كعلم مستقل . هر بارت نشر سنة 1816 " كتاب تعليمي في علم النفس " وكتاب ثان اسمه "علم النفس بوصفه علما" سنة 1924 . لم يدع هذا الكتاب مجال للالتباس في تقديم علمك النفس كعلم مستقل وقائم الذات .

  وهكذا وقع الانطلاق في التعامل مع علم النفس كعلم مستقل. ولكن رغم هذا التقدم لم يستطع هذا العلم الناشئ من وضع مناهجه الخاصة به  بل استعمل الرياضيات  ليعبر بها تعبيرا كميا عن مقولته في تفاعل الأفكار..وبهذا كان ارتباطبيا. ولكنه لم يكن كبقية الارتباطين وخاصة الأنقليز منهم الذين اعتمدوا بدورهم  على الفيزيولوجية والنورولوجيا لكن اختلافه معهم لم يكن نتيجة  استعمال مناهج مختلفة فقط. فقوانين الارتباط التي يعتمدون عليها كانت بالنسبة لهم سلبية ميكانيكية. أما عند هربارت فقد كانت ارتباطية ماهيات ديناميكية تتصارع مع بعضها البعض. بحيث لو رجعنا الى ديناميكية ماهيات هربارت لوجدناها تتحدث عما يعرف اليوم باللاشعور.

    هر بارت ميز بين نوعين من التفاعلات. الأفكار القادرة على الارتباط الموجب وهي التي تحدد في كميات منسجمة والأفكار المواكبة الناتجة. وعندما تنتمي الأفكار إلى نفس الاتصالات تندمج...هذا كما نرى هو ترجمة لمنطق تمازج الألوان الذي أشرت إليه منذ حين يمتزج مثلا اللون الأزرق والأصفر ليعطيا اللون الأخضر. وعلى هذا المنوال يكون تمازج الأفكار. إذا وقع اندماج بين الكميات المنسجمة يسميها هربارت Continuities أما إذا لم تكن منتمية إلى نفس الاتصالات مثل الصوت أو اللون ينتج عنها وحدة معقدة Complications . أما الأفكار المتعارضة إذا كانت ذات قوة متساوية فهي تكف بعضها البعض  والمفرز منها يدلف إلى الشعور. ويدخل هر بارت هنا  الرياضيات في معالجة هذه الكميات. يمكننا القول هنا أن هر بارت جانب ما اكتشفه فرويد. المنهج  الذي اتبعه هر بارت فرض نفسه ... وقيد هر بارت حتى في لغته. لأنه اكتشف اللا الشعور ولكن رياضيا . أي أنه اكتشف اللاشعور بلغة الرياضيات. أما فرويد فقد اكتشفه بلغة النفس وبمعول خاص بعلم النفس....وهذه ميزته على الاخرين. أللاشعور بالنسبة إلى هر بارت هو مجموعة الأفكار التي لا تدلف بنفسها في الشعور.وهذا ما قاله تقريبا فرويد بلغته الخاصة به فكان اللاشعور ما لا يستطيع أن يندلف في الشعور نتيجة الكبت.

   يصنف هر بارت الأفكار إلى ثلاثة أنواع الأفكار التي تفهم بوضوح  والأفكار الغير واضحة المهمشة والا فكار التي أرغمت عن الخروج من دائرة الشعور .والدرجة الثالثة هي التي تكون اللاشعور عند فرويد. لأن هناك إرغام قهري وهذا هو الكبت. ولكن لسائل  أن يسأل أين الرغبة في كل هذا ؟ ويجيب هر بارت الرغبة تحصل عندما تكون الإرادة قابلة للدخول في نشاط فكري . بمعنى آخر  عندما تأخذ فكرة ما في التدرج باتجاه مكان القيادة متحدية بذلك القيادات الموجودة في طريقها . وللاجبة عن كيفت تصير الرغبة إرادة؟ يفترض وقتها شرطا آخر  إمكانية الفعل ..اذا وجدت إمكانية الفعل  تترجم الرغبة إلى إرادة .ولسائل أن يسأل ما هو مكان الألم في هذه البنية التي تكاد تكون ميكانيكية ؟ الألم عند هر بارت ينشـأ من المواجهة التي تحدث بين الأفكار.ومن هذا المنظور تكون اللذة عندما تستنفذ فكرة من الطاقة زيادة على ما يقتضيه الهدف. فالزيادة عن الحاجة يعاش على أنه لذة.وكل هذا يدور بالنسبة له في دائرة الشعور. أما الأنا مثلا فيتكون بتجمع الأفكار وعندما هذه التجمعات للسيطرة التامة مع ما يترتب عن هذه السيطرة من انتظام في قيام العقل بوضائفه. وهكذا يمارس هذا التجمع من الأفكار المسيطرة سلطة قوية في اختيار الأفكار التي تكافح من أجل دخول الشعور. الأفكار المتفقة مع التجمع المسيطر يسمح لها بالدخول يفسح لها المجال ويعرقل ما عداها . ألانا هو كتلة من هذا القبيل.كتلة تكتسب من القوة ما يجعلها  عنصرا ثابتا في جميع العمليات  المختلفة التي تعبر فيها.  وهكذا مرة أخرى إذا اعتبرنا الأفكار النشيطة رغبة نكون قد انتقلنا من هر بارت إلى فرويد.ثم لنتساءل عن  الطبيعة الأخلاقية في هذا البناء؟ هذه الطبيعة ترجع إلى التواد والتنافر بين الأفكار. الأفكار التي تبقى في صراع  بين القوة الداخلية وما يفرض من الخارج لتنال شرف الوصول للشعور.

  كما نرى لم يترك هذا البناء لمكان آخر...مثل الروح. فالنفس وحدها كفيلة لسد هذا الفراغ بل تغني حتى عن مجرد التفكير فيها . وهكذا يكون الغرب قد قطع عن الكنيسة كل تدخل في هذه المنظومة "العلمية" التي بدأت توضع بعناية  دقيقة حتى يقطع الطريق عن كل من لا يفكر مثله وليس على الكنيسة فقط...وهكذا وقع وأد بعد من أبعاد إنسانية الإنسان. وكما نرى اليوم يقع التفكير ملتا فى هذا الشأن لأن إنسانية البشر ترفض وبقوة بترها.

المرور من الروح إلى النفس في الغرب

 إذا اعتبرنا أن الروح لها علاقة بإنسانية الإنسان فكيف يمكن إلغائها أو شطبها بدون المساس بهذا الفرد؟ لكن الغرب عوض إنسانية الفرد باجتماعياته. وهكذا حققت المدرسة السلوكية حلمها باختزالها كل أبعاد الإنسان في غرائزه لكي تسهل دراسته مثله مثل بقية قطعان الحيوان... والان يتحمل الغرب تابعيات هذا ... وهو يدفع الثمن باهضا في سبيل ذلك.

10. خلفيات المدرسة السلوكية

   ما هي منطلقات مؤسسي المدرسة السلوكية؟ كان أكبر مؤسسي المدرسة السلوكية مختصا في علم  الحيوان ولا علاقة له بالانسان... ثم هكذا انتقل من Zoologie بقناعاته ومبادئه وأدوات عمله إلى  علم النفس البشري. ومنذ البداية وضع النقاط على الحروف. حيث اعتبر أنه " لا يمكن أن يكون موضوع علم النفس الفكر ولا الحياة الداخلية ولا الدوافع  بل فقط السلوك الخاضع للملاحظة أي ما يفعله الكائن البشري منذ ولادته حتى موته. ليس على النفس أن يهتم بالوقائع النفسية الفردية الغير الخاضعة للضبط".

أضيف في 2 نوفمبر 2004

ما معنى هذا؟ أن المدرسة السلوكية ألغت كل ما له صلة بالعقل  والعواطف والمشاعر والأحاسيس لأنها هي حسب رأيها هي التي تعطل الأداء الجيد للفرد وحده و في المجموعة. وبدونها يصبح لكل فرد مكانه المعين له منذ ولادته إلى غاية موته لا يحيد عنه ولا يفكر مجرد التفكير فيه، مثله مثل أي نملة أو نحلة...  تعرف مكانها غريزيا وتقوم بدورها في المجموعة آليا  بكل دقة ونجاعة.

 إذن بعد القطع الذي قام به هاربارت مع الترابطية التقليدية جاءت السلوكية وقطعت مع إنسانية الإنسان. وحادت بعلم النفس عن موضوعه وأرجعت الفرد البشري إلى "اصله" الحيواني الذي طالما حلمت به نظرية النشوء والارتقاء. لماذا جمود الغريزة عند الحيوان والتي هي عنده عبارة عن برمجة بلغة الإعلامية اليوم ؟ لأنها مبتورة من العقل. وإذا بترنا العقل من مرجعيته الإيمانية الروح يصبح العقل غريزة تشبه غريزة الحيوان ... وهذا الخطأ المميت الذي وقع فيه الغرب... إذا فصل العقل عن الروح يمكن بواسطته ترويض الإنسان  كما يروض الحيوان... وهكذا وجد واطسون الحلقة الضائعة نفسانيا قبل أن تجدها نظرية النشوء والارتقاء عضويا ...

السلوكية لم تكن ردة فعل عرضية عما كان شائعا من مناهج ومدارس ولكنها كانت تتويجا لتمش إيديولوجي. و لم يكن لها أن تعرف هذا الانتشار بدون خلفية نظرية النشوء والإرتقاء. هذه النظرية ذاتها لم تكن جديدة فهي على سبيل المثال  كانت نظرية لابلاص في علم الفلك ، وكانت ركيزة من ركائز علم الاجتماع مع فوربيل ، وكانت من النظريات المهيمنة  في الجيولوجيا على يد ليل وفي البيولوجيا مع سبينسر الخ... الخ...

   نظرية النشوء والارتقاء ترتكز  على فكرتين رئيسيتين : الانتخاب الطبيعي ، والصراع من اجل البقاء. تبناها داروين بعد اطلاعه على أعمال  مالتوس في كتابه "مقال في السكان " حيث يعرض الفكرة التالية : إن درجة الإخصاب الطبيعي عند الأنواع لا تتناسب مع أعدادهم الواقعية. لماذا ؟ وللجواب عن هذا السؤال افترض أن عدد السكان  محكوم بأسباب طبيعية لا علاقة لها بالقدرة  الفعلية على التناسل ويذكر أن  من بين هذه الأسباب الأمراض والمجاعات والحروب... اندهش داروين باطلاعه على هذا العمل.. فتبناه ومنه انطلق في بناء نظريته ، فارتأى أن الصراع على البقاء لا بد له من أثار أخرى  غير الأثر الكمي واستنتج أن القصد من هذا الصراع ليس إلا إبقاء هذه الأنواع في حدود معينة. وافترض سيمات معينة يمتلكها الأفراد تساعدهم في صراعهم من أجل البقاء.. وهنا نجد سر مقولته "البقاء للأفضل ". وبفضل القوانين التي وضعها مالتوس فسر كيف يتمكن الأفضل من توريث سيماته إلى أبنائه مؤكدا أن هذه الصفات سوف تبرز عند بعض الأبناء وتكمن عند البعض الآخر. ولكن عند الذين تبرز عندهم ستكون متطورة أكثر  مما كانت عند أولادهم  هؤلاء هم الذين  سيميلون إلى البقاء.. وهكذا.

   نلاحظ كيف انقلبت الآية، فبعد أن كان الخلود مع الأديان في السماء لمن هو أتقى أصبح مع نظرية النشوء والارتقاء في الأرض لمن هو أقوى. بمعنى آخر بعد ما كان البقاء لصفاء الروح أصبح البقاء لصفاء الجينات...

   مع نظرية داروين  وقع الرجوع للغريزة بصفة مقنعة وهذا لتجاوز إنسانية الإنسان. مالتوس كان يبحث عن تطبيقات لنظريته  على النوع البشري.  وكان يطمح بواسطتها للإصلاح الاجتماعي ونرى اليوم نوعية هذا الإصلاح المنشود فهو يتمثل خاصة في كيفية  جعل الإنسان  يحتل المكان الذي يعين له ليقوم فيه بدوره بدون تفكير  بنجاعة قصوى وبأقل المجهودات... وهذه منطلقات المدرسة السلوكية. وبهذا يصبح الإنسان بعدما كان منبهرا بما ينتظره في آخرته مخنوقا  مريضا بواقعه وأصبح العذاب الذي كان يهابه الفرد في آخرته يتجرعه في دنياه كقلق وضياع وأمراض و.. و.. وبعد أن حادت الإيديولوجية العلمية بالعلم حيث نزلته منزلة" الرب" ، اصبح الإنسان عاجزا  عن تقديم الإجابات الملحة لإشكاليات ومشاكل العصر وهذا رغب التقدم العلمي والتكنولوجي الذي لم تعرفه الإنسانية من قبل... فانطبقت عليهم الآية : "مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون". (البقره آية 16)

   المنطلق كان كما بينت  في انبهار بعض العاملين مع الحيوان  بالتنظيم المحكم الذي يميز حياته الاجتماعية. هذا التنظيم يجعل الحيوان ناجعا في مواجهة الطوارئ والأزمات  والمجاعات...  وهذا بفضل  تأقلمه السريع مع كل المستجدات. فوقع التركيز على لغز هذا التنظيم  المحكم... وانتهى بهم لمطاف  أن" البلية تكمن في استعمال العقل وما ينجر عنه...  فحاولوا شطبه. وبهذا كانت السلوكية انقلابا مقنعا على إنسانية الإنسان وبشريته. في هذا الإطار ماذا سيكون تعريف السلوكية لعلم النفس ؟ ويجيب ماكدوقال "هو(يقصد علن النفس) العلم الموضوعي لسلوك الكائنات الحية"(عن ج. . ل. فلوقل علم النفس  في مائة عام :ترجمة لطفي فطيم ص 175. دار الطباعة.بيروت.). نلاحظ هنا التعتيم المقصود حيث يصبح الإنسان مع هذا " العلم الموضوعي " كائنا حيا كبقية  الكائنات الحية مثل الذبابة والبعوضة والفأر والخنزير.. بمعنى ليس له ما يميزه عنهم... وهذا شطب مقصود للعقل وما يتبعه عند الإنسان.

    في سنة 1911 أصبح علم النفس مع بلسبوري:"علم السلوك".  والسلوك هنا يقصد بها ردة الفعل التي ليس لها أي إضمار أو قصد خارجا عن المؤشر  الذي نتجت عنه.  وهكذا يقتصر الفعل البشري عند السلوكيين على "الحافز" و "ردة الفعل"، وهكذا شطب العقل تماما ليقتصر دوره على المحرك الآلي لمكونات الجسم الععضوي. و هكذا مع السلوكية قطعت الخطوة التي تفصل الإنسان عن الحيوان. وبعد إجحاف الكنيسة بتقيد الفرد ليقترب من الملائكة و " الرب – الإنسان " عيسى، انقلبت الآية وزج به في تعداد الحيوانات... واصبح يروض كما تروض.

 وسط الاهتمام المتزائد بالحيوانات وسلوكها   وبالتحديد سنة 1913 قدم واطسون مقالا بالمجلة  السلوكية بعنوان "علم النفس كما يراه السلوكي "، ويقصد بالسلوكي نفسه باعتباره مختصا في سلوك الحيوان ،  يقول في هذا المقال: "يمكن كتابة علم النفس ، بتعريفه كما فعل بلسبوري(بوصفه علم السلوك ) دون التراجع مطلقا عن ذلك التعريف ، دون أن نستخدم  على الإطلاق  اصطلاحات الشعور ، والحالات العقلية ، والعقل ، والمضمون ، والإرادة والتصور وما يشابه ذلك. "(نفس المصدر السابق ص 176). السؤال الذي يفرض نفسه هو : إذا بترنا الإنسان شعوره والحالات العقلية و العقل الخ... الخ.. كيف نسمح لأنفسنا  تسميته إنسانا ؟ فما هو هذا الإنسان الذي لا شعور له ولا عقل  ولا إرادة ولا تصور ... ولكن مع كل هذا يواصل السلوكي اعتباره إنسانا. هذا السعي هو بالأساس محاولة لتجريد الإنسان من مقومات إنسانيته لنتمكن من صياغته  على الهيأة والشاكلة التي تمكننا من التحكم في جميع حركاته وسكناته لنروضه كما نشاء... فيعود بذلك لا هو بالحيوان ولا بالإنسان بل حيوان متطور وتطوره ليس نتيجة عقله أو إيمانه بل تأقلمه... ليصدق عليه في الآخر داروين  ظنه. فلإنسان الناجح حسب هذه النظرية هو الذي لا يشغل نفسه باستعمال عقله.. وهي اكبر "مضيعة" للوقت وهدر للطاقة التي ستخصص للإنتاج... نلاحظ هنا أننا في جوهر فلسفة العولمة. راحة وسعادة الإنسان لا يجب أن تخرج عن أداء دوره الإنتاجي لضمان قوته وتكاثره...

    النموذج الحيواني الذي انطلق منه واطسون  باعتبار تخصصه في علم الحيوان هو الذي أوصله إلى قناعته هذه والتي عمل على تطبيقها بحذافيرها على الإنسان... لتصبح بذلك المرجع الذي يكاد أن يكون الوحيد في الغرب.

   حذف العقل يفضي إلى الغرائز... وهنا تلتقي المدرسة السلوكية ونظرية النشوء والارتقاء ... البقاء للاقوى. عند الحيوان الذكر الأقوى هو المهيمن على القطيع كله.. وخاصة الإيناث. الذكر المسيطر لا يمد "شرعية" هيمنته من ذكائه ولا من أخلاقه...  بل من قوته العضلية. وهذا التطبيقات لم تعد مجرد اجتهادات نظرية تدرس في الجامعات لإثراء النقاش كما يقال بل أصبحت القانون الوحيد الذي يطبق في العلاقات الدولية.. مصلحتي تقتضي.. هذه كل المبررات.. والغريب أن كل هذا يمارس على مرأى ومسمع من الكل باسم الحرية. هذه الحرية المسلطة على الرقاب هي نتيجة فقدان المسيرة الإنسانية مناعتها عند ما بترت من أهم مقوماتها الإيمان. من سوء الحظ المرض لا يعرف حدودا وسنرى كيف اصبح كابوس العصر.

أضيف في 4 ديسمبر 2004

11. المرض كحافز لإعادة النظر في المسلمات

 ممارسة الشذوذ وإباحته بالقانون لا يمكن أن يمر دون أثار... من هذه الآثار التي أصبح من الصعب تبريرها ولا تجاهلها الأمراض المستعصية والعصية التي نعرفها اليوم مثل مرض فقدان المناعة و مرض السرطان الخ... الخ...  هذه الأمراض وخاصة مرض فقدان المناعة يذكرنا بمرض الهستيريا الذي عرفته أوروبا في القرن التاسع عشر.. وكيف أرق الجميع: مرضى وأطباء على السواء. فأطباء اليوم ليسوا بأحسن حال من نظرائهم بالأمس.  الآن الجميع يعرف أن الهستيريا قاعدتها ليست عضوية ولكن من لك أن يصدق  هذا في القرن التاسع عشر.  0ونفس الشيء اليوم الطب المخبر عاجز على  فهم وإيجاد الحلول  لأمراض العصر ونفس العمى كذلك. لا أحد يتواضع ويبحث عن أسباب أخرى غير السباب العضوية.  الهستيريا قاعدتها نفسية ولكن أنواع كثيرة منها تترجم عضويا حيث يشتكي المريض من أعراض واضطرابات لا مبرر عضويا لها... هذه الأمراض أحيت أو كانت سببا في إحياء الخرافات الشعبية  التي ترجع كل ما يستعصي عن الفهم للسحر أوالجن والتي يترك شرف فك طلاسمها للمشعوذين. 

مريض الهستيريا أو مريضة الهستيريا، لأن هذا المرض هو مرض نسائي بالأساس،  تمر فيه المريضة في وقت وجيز من حال إلى حال  وهذا ما يضفي على  هذا المرض نوعا من الغرابة وهذه الغرابة هي التي يسرت إلصاق أسبابه بالسحر أو الجن. في أواخر منتصف القرن التاسع عشر أخرج طبيبين نمساويين هما برويار و فرويد زملائهم الأطباء من الحلقة المفرغة التي كانوا يدورون فيها... حيث وقع التسليم نهائيا بالأسباب النفسية البحتة القابعة وراء الأعراض البدنية في مرض الهستيريا وخاصة فيما يعرف  ب hystérie de conversion.  هيأ هذا الاكتشاف الاعتراف بالنفس التي وقع شطبها والتخلص منها مع علم النفس السلوكي المخبري.

ما وقع التفطن له من طرف الطبيبين المذكورين  هو أنه وراء حالات  الهستيريا نجد شعورا قويا بالذنب. واتفق كبار أساتذة ذلك العصر من أمثال جاني تلميذ شاركو مع فرويد على أن الذين يعانون من الأمراض العصبية الوضيفية يتشابهون على الأقل في جانب من جوانب شخصيتهم... هو أن الشعور عندهم متقلص إلى درجة تجلب انتباه المتعامل معهم.. وبأن المساحة المتبقية من هذا الشعور تعرف تفككا ملحوظا.  ولكنهما اختلفا في تفسير هذا التقلص و التفكك...  بقى جاني على قناعا ته معتبرا هذا التفكك  نتيجة " نقص في القدرة لدى الشخص الضعيف  على جمع و تكثيف ما لديه من ظواهر نفسية وتمثلها  في شخصه "(نفس المصدر السابق ص 195). لكن فرويد أرجع هذا التفكك إلى تناقض فعال بين العناصر المتفككة وبقبة العقل0 وذهب أستاذهما شاركو إلى إمكانية استعادة العناصر المتفككة  عن طريق التنويم المغنطيسي مثلا.   بحيث يمكن معالجتها بالإحاء. لكن الطبيب النمساوي برويار رأى أنه بمجرد استحضار الماضي ومناقشته مع المريض يمكن التغلب على هذا التفكك. لم يقتنع فرويد بهذا الحل وحاول التعرف على الآلية المسؤولة عن هذا التفكك أو التي تنتجه0 لهذا تخلى بسرعة  عن التنويم المغنطيسي واعتمد طريقة التداعي الحر  للأفكار. اعتماده هذه الطريقة أوقفه على بعض القوى النشيطة  التي تحول دون دخول العناصر المفككة إلى دائرة الشعور.  وكانت هذه هي خطوته الأولى  في بناء نظريته  التي تأخذ من اللاشعور عمودها الفقري...   

العودة للروح من باب مرض النفس  و الدافع هو طاقة الآلية الجديدة

الجديد في اكتشاف علم النفس التحليلي هو تعريته للعلاقة اللاشعورية التي تربط المرض بالموت. معايشة الإنسان لموت أو مرض قريب له يحرك فيه الكوابيس التي توقض وتقيض طمأنينته هذا ما اكتشفه فرويد وبرويارفي معالجة من كانت سببا في اكتشاف علم النفس التحليلي (Anna  O.). 

   في بعض الأحيان يجد الإنسان نفسه مشلولا أمام تمازج (اختلاط) الموت والحياة. الإلتباس يبدأ من أخذ المرض كمؤشر للموت.   فشل (Anna O.) التمييز بين هذين البعدين عندما كانت تباشر أبيها المريض هو الخطوة الأولى إلى ما أشرت له منذ حين تقلص شعورها، وازدياد شعورها  بالذنب الذي عانت منه بعد وفات والدها،  سببه إرجاعها موته إلى عدم تقديم الدواء له في موعده المحدد، وكان هذا سببا في  سد الفجوة بين تفكيرها السوي وافتراضاتها المرضية.  احتدام هذا الصراع وجد الحل في المرض. مرضها كان الحل الواقعي الذي جعلها تتجاوز  ولو ظرفيا شعورها بالذنب وبالتالي خوفها وقلقها.  الحلم والهذيان تمازجا و كذلك النوم واليقضة جعل فرويد لا يكتفي  بما يقوله المريض بل حاول تجاوزه لمعرفة البنية  التي أفرزته. وكان هذا سبب اكتشافه للجهاز النفسي كآلية ديناميكية.

وهكذا تمكن فرويد من إخراج النفس من القبر الذي قبرته فيه  نظرية النشوء والارتقاء و المدارس السلوكية.

توصل فرويد إلى أن الكبت هو أساس البلية وهو الذي سيدفع للبحث عما يخفف من وطأة الشعور بالذنب والقلق الوجداني الذي يعاني منه الفرد.  هذه الوطأة  تولد في الفرد إحساسا بالضعف أمام ما يتحداه وما يقهره : الموت. العصابي يعيش كبته كصراع فينهك فيه كل طاقته الحياتية  فيتقوقع  على هذا الصراع حيى ينقطع عن العالم الخارجي فينكص في مرضه عوض أن يتسامى كما هو الشأن عند المبدع الذي يوضف هذا الصراع في عمله الإبداعي.

هذا تقريبا ما اكتشفه علم النفس التحليلي الشعور بالذنب الدفين المسؤول على مختلف اضطراباتنا... حتى البدنية منها أحيانا. المدخل الذي دخل منه علم النفس التحليلي إلى هذا الباب  هو الدافع.

   الدافع هو واحد من أهم  المفاهيم في علم النفس التحليلي. لماذا ؟ لأن هذا المفهوم قطع بصفة نهائية وبكل وضح مع الغريزة التي جعلت من علم النفس تابعا لعلوم أخرى في منهجياته ومفاهيمه منذ استقلال العلوم عن الفلسفة.

     الدافع في علم النفس  La pulsionيمثل الطاقة الأساسية Fondamentale  للفرد وهي غير البرمجة الوراثية. وتمثل هذه الطاقة القوة الضرورية الفاعلة في أعماق الإنسان والمسيرة لحياته. هذه الطاقة ليست بأحادية النوع ولا متجانسة  في تمحوراتها. فرويد أرجع هذا إلى وجود قوتين متناقضتين متوا جهتين... والصراع الناتج عن هذه المواجهة  يمثل الجدلية التي تقود  حياة الإنسان وكذلك تمثل وقود الطاقة التي تحركه. من هذه الثنائية جعل فرويد المحرك الأساسي لنظريته وهي من النقاط الأساسية التي أدت إلى القطيعة بينه وبين أول أتباعه يونغ yung .

     اعتبر يونغ هذه الطاقة متجانسة... وحاسب فرويد لأنه لم يستوعب  الفرق الجذري بين الدافع والغريزة.. حيث تعامل مع الدافع  على أنه شكل من أشكال الغريزة... وهو نفس الفخ الذي يتخبط فيه  السلوكيون الآن.

    الدافع إذن هو وسيلة فرويد للقطع مع الغريزة  إلا هو كذلك بقيت لديه حيرة والتباس لم يستطع تجاوزهما  وهذا ما سيعبر عنه بطريقته في كتابه Métapsychologie. حيث أن التمييز بين تواتر النسل كغريزة والدافع كوسيلة أساسية للمتعة لم تعد تقنعه... حيث أن هذه الطريقة في الفصل ليست من شأنها أن تجعل من هذا البعد الإنساني البحت يخرج نهائيا من دائرة الالتباس.

 

أخر حلقة في بحث من الروح إلي النفس.

 قطب يسعى لتواصل الحياة والآخر لإخمادها . وهكذا انتهى إلى المواجهة التالية بين "دوافع الحياة " و "دوافع الموت"..وبهذا يكون دور الجهاز  النفسي في حياة الفرد هي خفض التوترات التي يتعرض لها بصفة متواصلة مسترسلة من جراء عمل الدوافع.. .بمعنى أن دورها دور اقتصادي.

وهكذا انتهى فرويد حيث انتهى الفلاسفة ورجال الدين  عند ديالكتيكية : الموت والحياة .. وهذا ليس بغريب فكما يقول التنزيل الحكيم :" لله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله. "

 وهذا ما حاول الهندوس والفراعنة(ما أشرت له في بداية بحثي ) الاقتراب منه بداهة عن طريق الروح وما نحاول اليوم فك رموزه عن طريق النفس.

سأحاول بفضل الله في عمل لاحق  مواصلة السيرة التي ذكرتها. والتي سأحاول فيها إرجاع ما لله وإعطاء ما لقيصر، لقيصر بعد إيفاء قيصر  بحق الله.

إنتهى.