قراءات نفسيــــــــة

 

المعرفة

وقعت مراجعة شاملة لهذا الباب ... مع الإعتذار.  أما سبب هذه المراجعة فهو أني بصدد الاجتهاد لوضع نظرة كاملة متكاملة للخروج من العقم الذي آل له المسار الإنساني بصفة عامه ومسارنا الحضاري العربي الإسلامي بصفة خاصة ولهذا كل ما أقدمه ليس بنهائي ولكنه قابل للتحوير مع دعوة الجميع أو من يهمه الأمر المشاركة في هذا البناء.          مع الشكر.

 العلم باب من أبواب المعرفة (1)

   العلم باب من أبواب المعرفة

         لا معرفة ذهنية بلا علم. العلم أساس هذه المعرفة. بذلك تكون المعرفة بنت العلم الذي جبل عليه آدم وذريته. "وعلم آدم الأسماء كلها". . .  مضمون هذا التعليم معطى ... ولا دخل للتجربة فيه .  التجربة هنا بالمعنى الفلسفي للكلمة .  الخلط الذي وقعت فيه الفلسفة لا بد من تجاوزه . من لا يعلم لا يمكن أن يعرف .  المعرفة المقصودة هي المعرفة الذهنية ولا أقصد  أنواع المعرفة الأخرى و الإستشراقية  واحدة منها  لا تحتاج لهذا التمشي.  بذلك يكون العلم ملكة تصعب المعرفة  في غيابها. لذلك سيكون العلم أحادي المصدر ... والمعرفة متنوعة . تنوع المعرفة من استحالة الوقوف على مصدرها الأصلي و توق العقل البشري إلى هذه المعرفة الممنوعة .

         قلت لا أقصد أنواع  المعرفة الأخرى .  لماذا ؟ لأن هذا النوع من المعارف لا يحتاج إلى تعليم ذهني .  وأكبر معجزة في هذا الشأن النبي الأمي صلوات الله وسلامه عليه . و قبله كانت معرفة آدم لخالقه . " وعلم آدم الأسماء".  للتعلم لا بد من معلم ، ولا بد من معرفة هذا المعلم حتى تأخذ منه.  ولا يمكن أن يكون آدم قد عرف خالقه بذهنه بما أن ذهنه لم يسوى بعد .  وكذلك فإن آدم لم يصف لنا خالقة وصف معاينة .  وعلم إبراهيم و موسى(عليهم وعلى نبينا أفضل السلام) اليقيني بوجود خالقهما لم يمنعهما من طلب رؤيته مباشرة  ولكن الأكيد أنها لم تكن معرفة معاينة . وهذه كلها من أسرار الإيمان بالغيب .

       لنحاول تتبع  أمر المعرفة الذهنية منذ بداية الخلق .  أرادت المشيئة الإلهية خلق مخلوق مختلف ومتميز عن بقية الخلق.  وقبل خلقه أعلم الملائكة بذلك مع أمرهم بالسجود له أثناء تقديمه لهم.  ثم تمت العملية .  خلق جل وعلى  آدم بيديه ونفخ فيه من روحه ثم بعد ذلك تأتي العملية المميزة لآدم :  خصه المولى بعلم لم يعطه أحدا من قبله "علمه الأسماء كلها " والمقصود هنا وإعطاءه  نعمة العقل " أي ملكة المعرفة العقلية .  لما استوت هذه الأبعاد أمر الخالق  آدم أن يسكن هو وزوجه الجنة .  ولا بد من الوقوف هنا لحظة .  لماذا  ؟ لأن المولى جل وعلى قبل خلق آدم أعلم ملائكته ... "أنه جاعل في الأرض خليفة. " ويأتي الأمر لآدم  لكي لا يسكن الأرض التي خلق لخلافتها بل الجنة .  إذن لا يمكن أن تكون هذه الجنة التي سيطرد منها آدم هي جنة الجزاء .  بل جنة أخرى وسط بين جنة الجزاء الموعودة في الآخرة والأرض الذي سيتولى خلافته فيها .  هنا سؤال يطرح نفسه : هل لهذا معنى ؟ نعم وبالتأكيد .  هذا المكان الوسط هو الذي سيتعلم فيه آدم استعمال عقله .  كيف ستتم هذه العملية ؟ هذه العملية تمت كالآتي والله ورسوله أعلم .  وقع تمكينه وزوجه  من المكان وأعطاهما حريتهما فيها مع أمر لم يألفاه من قبل : النهي .  كيف تمكن قراءة وقع هذا النهي عليهما رغم قبولهما الأمر بدون نقاش كما يقال .

    أقف هنا قليلا لآخذ مثالا من حياتنا اليومية .  عندنا في علم النفس التحليلي قاعدة متفق عليها .  هذه القاعدة تتمثل في كيفية إخراج الطفل من عالمه الخيالي إلى الواقع الذي سيعيشه في اجتماعيته  .  أساس هذه العملية هو الحرمان .  الحرمان هو الذي سيعين الصبي على تجاوز عالمه الخيالي إلى الواقع الإجتماعي.  وأول هذه الحرمانات يتمثل في الفطام .  يحرم الطفل من ثدي أمه عمدا لكي يتمكن من التخلص من التبعية التي كانت تربطه حياتيا بأمه .  قبل الفطام الطفل ليس له وجود ذاتي منفرد عن أمه.  الطفل كما يقول الدكتور جاك لاكان لا يزال يعيش في حالة انصهار تام مع أمه .  وبالفطام يرج في كيانه ولكن هذه الرجة سليمة وهي حيايتة بالنسبة للطفل وإلا حكم عليه بالبقاء دون إنسانيته . يزلزل الإنسان في كيانه ليمر من حال إلى حال أو من طور إلى طور.  وهذه من سنن الله في خلقه وأضرب على ذلك مثالين . الرجة القوية الأولى التي يمر بها الإنسان تقع أثناء نفخة الروح .  الجنين قبلها يكون في سبات عميق وإذا به يزلزل في كيانه زلزلة  يتعرى فيها على خالقه ومن خلال ذلك يبدأ وعيه بذاته ... ولن يتوقف وعيه بنفسه في الحالات السوية إلا عند الموت ، وحتى في النوم وعيه بذاته لا يتوقف .  والمثال الثاني يخبرنا به المولى على البعث ، يوم الحشر عندما ينفخ في الصور فيذهل الكل إلا من أراد الله استثنائه.

     هذا المثال سيعيننا على فهم البيداغوجية ، إذا صح التعبير، التي اتبعها المولى مع آدم لتمكينه من التمرس على استعمال عقله وعلى الخروج من تبعيته المطلقة لخالقه ليبدأ رحلته الإنسانية والتي سيعتمد فيها على عقله عوضا عن فطرته .  الجنة التي كان يعيش فيها لا يضمأ فيها و لا يجوع ولا يشقى ولا يتعب ... هذاالنمط  لا يمكن أن يكون هو النموذج في حياته على الأرض . لذا كان ... ولا بد من الحرمان .  ويتمثل الحرمان هنا في النهي"و يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة... "(هذا يذكرنا بحال الطفل الذي لم يعهد إلا ثدي أمه وبين عشية وضحاها يقال له : "كل من حيث شئت ولا تقرب ثدي أمك " . أدم لم يألف هذه الطريقة من المعاملة ... هو المخلوق" المدلل" المميز الذي يتباه  به خالقه أمام بقية مخلوقاته من ملائكة وجان .  

   اللذة المطلقة ،اللذة الحرام ، كما تسميها الشرائع هي اللذة الغير مقيدة التي كان يتمتع بها  في الجنة لا يمكن أن تكون المناسبة لواقع حياته على الأرض . شاءت الحكمة الإلهية تدريبه على التخلص منها وهذا بتدريبه على قبول الواقع الذي خلقه من أجله : العيش على الأرض و هي في الواقع سبيلنا لتخليص الطفل من سيطرة خياله . . النهي إذن  هو نوع من الفطام الذي لا يقبل بطيبة خاطر . فلا أحد يتخلى عن حق مكتسب برضاه .  ما الذي يدلنا على ذلك في قصة آدم وحواء وخاصة انهما قبلا الأمر بدون نقاش ؟ لم يكن تجوابهما مع إبليس عن غباء أ وعن جهل لتحذير المولى لهما من عداوة إبليس وحيله ومكره وغوايته ... فقط ، بل أعتقد والله ورسوله أعلم أن النهي حز في نفسيهما ولكن تخلقهما مع الله هي التي منعتهما مساءلة المولى عن سبب هذا الحرمان مع التذكير أن السؤال عن سبب الحرمان ليس معنا عدم قبول الأمر...  وهذا ما نكتشف مخلفاته عند بعض الناس في التحليل النفسي . فالمنهي عن أمر يتساءل بينه وبين نفسه هل عمل شيئا( أقول شيئا لأنه في البدايه لا يعرف الذنب ، الذنب هو مفهوم أخلاقي ثقافي يأتي في مرحلة متأخرة) يستحق عليه العقاب .  وعندما ينضج عقله يتبين قانون السببية أي لا وجود لشيء بدون سبب فيسقط فهمه هذا اللاشعوري على النهي الأول الذي تعرض له فيربطه بخطإ مفترض قام به استحق عليه العقاب : الرفض . ومن هنا يتكون الشعور بالذنب.  إذن المولى جل وعلى اختار هذه الطريقة ليبرز في آدم بشريتة  بعد أن مكنه من إنسانيته وذلك بتحريك عقله الكامن فيه ومن ورائه إرادته. وبهذا تكون إنسانية الإنسان تبرز بحضور المولى أما بشريته هو المسؤول عن بروزها ...  في وطن خلافته .

فوق